الناتو وواشنطن يقامران بمصير البشرية .. بقلم: د. أيمن أبو الشعر- موسكو

الناتو وواشنطن يقامران بمصير البشرية .. بقلم: د. أيمن أبو الشعر- موسكو

تحليل وآراء

الاثنين، ١٢ ديسمبر ٢٠٢٢

•    بوتن: مئات الصواريخ النووية الروسية -إن فكر الغرب بضربة استباقية ضد روسيا- ستكون في الجو ولا سبيل لإيقافها
•    اتفاقيات السلام في مينسك كانت خديعة باعتراف المستشارة الألمانية السابقة ميركل

"القلب الكلبي" ينطبق اليوم على السلطة في كييف
تذكرني ممارسات الحكومة الأوكرانية منذ استيلاء اليمين المتطرف على السلطة عام 2014 برواية القلب الكلبي للكاتب بولغاكوف أوكراني النشأة  – وأؤكد هنا أن الاتكاء على هذا المثل هنا لا يشمل الشعب الأوكراني، بل هؤلاء المتطرفين وحسب- فحسب الرواية يجري الطبيب بريبراجينسكي عملية زرع غدة نخامية بشرية في دماغ كلب شوارع يسميه شاريكوف، وتكون النتيجة أن يتحول تدريجيا إلى إنسان، ورغم المحاولات العديدة لتربية شاريكوف بالشكل اللائق إلا أن عاملين وراثيين يسيطران على سلوكه، وهما أصله الكلبي والغدة النخامية التي زرعت في دماغه، فقد أُخذت من رأس مجرم قُتل حديثا، وتكون النتيجة أن يعاني الطبيب ومساعده بورمنتال، وكل من في بيته عذابا جحيميا من تصرفات شاريكوف هذا، الذي بات يُحضر أصدقاءه من الشوارع معه إلى البيت، وبدأ يطالب رسميا بنصيبه من بيت الطبيب الذي سمح له بالعيش فيه،  ويصل الأمر إلى أن يهدد الطبيب نفسه بالسلاح، وتدعمه في ممارساته هذه لجنة الحي من المسؤولين الشيوعيين-  وهم يمثلون الغرب والناتو هنا في هذا السياق- عندها يضطر الطبيب بريبريجينسكي ومساعده بورمنتال لإجراء عملية جراحية معاكسة لإعادة شاريكوف إلى طبيعته الأولى، والتي يمكن إسقاطها على العملية العسكرية الروسية التي كانت اضطرارية حقا. والحقيقة ان بولغاكوف كتب روايته هذه أواسط العشرينات ليسخر من الشيوعية والسلطة السوفييتية باعتبارها مسخ، جاء عبر ولادة مفتعلة غير طبيعية في حينها، لكنها اليوم تبدو اكثر التصاقا بأحداث عام 2014، وتنطبق على الانقلاب الذي ولده ورعاه الغرب أيضا بظروف افتعالية حتى ان نائبة وزير الخارجية الأمريكية نولاند كانت تنزل إلى الميدان في كييف، وتشجع المتظاهرين الذين أقاموا المتاريس على إسقاط النظام، وتوزع عليهم الفطائر... تخيلوا لو قام نائب وزير الخارجية الروسية بدعم المتظاهرين في واشتطن إبان هجومهم على مبنى الكابيتول!!! ماذا كان يمكن أن يحدث؟
تاريخ واحد ومنعطف خطير
     لننطلق أولا من أن أوكرانيا تاريخيا هي جزء أساسي من روسيا، وليست حتى شبيهة بالجمهوريات التي ضمتها الإمبراطورية الروسية في فترات سابقة في القفقاس وآسيا الوسطى، كما أن تسمية أوكرانيا مشتقة من "كراي" التي تعني الحافة او الطرف، ولكنها على أية حال تشير إلى أنها قطعة من روسيا القديمة، بل إن كييف نفسها كانت عاصمة الإمبراطورية الروسية "روس كييف"، وحتى عندما تكوَّن الاتحاد السوفييتي تم دعم أوكرانيا حتى أن خروشوف منحها شبه جزيرة القرم إداريا داخل الوطن الكبير...
كرست سياسة النازيين الجدد الشقاق والتنافر مع القوميات الأخرى وخاصة الروس الذين يشكلون اغلبية ساحقة في المناطق الشرقية وشبه جزيرة القرم، هؤلاء السكان لم يكونوا بالطبع راضين عن سياسة اليمين المتطرف الأوكراني الذي ارتمى تماما بأحضان الغرب الذي دعم استيلاءه على السلطة  ليكون رأس حربة ضد روسيا، وكان واضحا لدى موسكو أن أوكرانيا بسلطتها الجديدة سترتمي حتى بأحضان الناتو، وبالتالي ستتحول القاعدة البحرية الروسية الضخمة في سيفاستوبل إلى قاعدة ناتوية، بل وكل شبه الجزيرة كمنطقة معادية لروسيا كما حدث واقعيا في دول البلطيق ما دفع الرئيس الروسي إلى تأييد الاستفتاء الشعبي لعودة القرم إلى أحضان الوطن الأم.
لا بد من الإشارة إلى أن الحس القومي الأوكراني نشأ وتنامى في القرنين السادس عشر والسابع عشر في إطار ثورات القوزاق ضد الاحتلال البولوني "   " وهو يختلف عن التطرف القومي الذي أوصل بانديرا "   " وبعض قادة المتطرفين القوميين إلى التعاون المباشر مع جيش الاحتلال النازي وحتى التنكيل بمن يقاومهم،  وبالتالي لم يكن خوف موسكو من عودة النازية إلى أوكرانيا مستندا إلى وهم خاصة بعد ثلاثين عاما من العداء لكل ما له علاقة بإرث الاتحاد السوفييتي الذي ساهمت أوكرانيا بانهياره، بل كان نتيجة تكريس انعطاف كبير وخطير سطع في مظاهر تمجيد الرموز النازية، ومظاهرات المشاعل التي ترفع الشعارات اليمينية المتطرفة.  
خديعة ماكرة
حاولت روسيا بالطبع حل الأمور ولو بضمان الحد الأدنى من الأمن للمنطقة كلها، وليس لها وحدها، وتحملت ثماني سنوات بطش المتطرفين الأوكرانيين بسكان دونباس بما يشبه الإبادة  الجماعية، ومن هنا أجرت محاولات تفاهم، ولقاءات عديدة توجت باتفاقية مينسك لوقف القتال، وإعطاء سكان دونباس ضمانات حكم ذاتي، مع بقائهم داخل أوكرانيا، وكان ذلك بضمانة منظمة الأمن والتعاون الأوربي، ورعاية ومباركة من الغرب، وتأييد من روسيا التي تبين فيما بعد أنها وقعت في فخ خديعة جدية، فقد أعلنت المستشارة الألمانية السابقة ميركل بوضوح وصراحة أن الغرب دعم الاتفاقية لا لتنفيذها بل لكي تمنح أوكرانيا فرصة زمنية للاستعداد لمواجهة روسيا. تخيلوا اعتراف صريح من ميركل نفسها حتى أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية اعتبرت هذه التصريحات أدلة يمكن أن تقدم للمحكمة! وعبر الرئيس بوتن عن امتعاضه وخيبة أمله تجاه مسألة الثقة حتى أنه أشار إلى فقدان الثقة بمن يمكن التفاوض معهم!!!  ناهيك عن أن عقد اجتماعات النورماندي "   " والحال كذلك كانت لإضاعة الوقت فقد كانت تظهر بين حين وآخر بعض الإعلانات المطمئنة بأن أوكرانيا ستنفذ اتفاقية مينسك، وذلك على الأرجح لتحقيق الهدف نفسه، وهو إتاحة الفرصة لكييف لكسب الوقت والاستعداد عسكريا لمواجهة روسيا والسيطرة على دونباس بالقوة، ولمن لا تسعفهم الذاكرة أشير إلى أن السلطات الأوكرانية لم تكتف بمتابعة قصف لوغانسك ودونيتسك خلال تلك السنوات الثماني بل وقطعت المياه عن شبه جزيرة القرم،  وفرضت حصارا محكما على دونباس حتى اضطرت روسيا إلى توجيه قوافل مساعدات إنسانية بملايين الأطنان من المواد الغذائية تحت مراقبة منظمة الأمن والتعاون نفسها التي تبين أنها عمليا كانت تساعد الحكومة الأوكرانية.  
وهكذا كان لا بد من عملية عسكرية شبيهة بعملية "شاريكوف الجراحية لإعادته إلى طبيعته الأولى"- أي إعادة كييف إلى وضع لا تشكل فيه خطرا جديا على روسيا وإفهام الناتو أن هناك خطوطا حمراء لن تسمح موسكو بتجاوزها، فقد طالبت الناتو وواشنطن أكثر من مرة  بتقديم ضمانات مكتوبة بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي الذي فقد أساسا مبرر وجوده بانهيار ليس حلف وارسو فقط بل والاتحاد السوفييتي نفسه، وهكذا قوبلت بالرفض كل محاولات موسكو التوصل إلى ضمانات أمنية راسخة لجميع الأطراف وكان تعنت الناتو بحجة أن ذلك حق سيادي للدول، هكذا! ولماذا لم يكن من حق كوبا السيادي أن تستقبل قواعد سوفييتية على أراضيها، وهدد كندي علنا بحرب نووية ضد روسيا، إذن من حق الناتو محاصرة روسيا من جميع الجهات، وليس من حق الشعوب المضطهدة داخل أوكرانيا أن تقرر مصيرها عن طريق الاستفتاء إلا إذا كان لصالح الغرب، وتكريس التبعية له؟!!  
ما هي المخاطر الحقيقية حاليا
لقد حققت روسيا قسما كبيرا من أهداف عمليتها العسكرية وضمت بعد استفتاء شعبي المناطق الشرقية والجنوبية ذات الأغلبية السكانية الروسية إلى قوامها، ويقي عليها استكمال تحرير ما تبقى من هذه المناطق التي ما زالت تحت سيطرة الحكومة الأوكرانية، وكانت كما هو واضح مستعدة لبعض التنازلات المتبادلة بعد ان بدأت المفاوضات في إسطنبول، ولكن بإيعاز من الناتو وواشنطن انسحبت أوكرانيا من المفاوضات... لماذا؟ لأن واشنطن والناتو يريدان استمرار الحرب في محاولة لإضعاف روسيا، وهما مستعان لتزويد أوكرانيا عبر قروض ستجعلها مكبلة لعقود عديدة لتسديد ثمن هذا السلاح ناهيك عن الدمار الهائل، وهذا لا يهم واشنطن والا الناتو ولا الاتحاد الأوروبي في شيء سوى للآلة الإعلامية، فمنطقهم يقول: فلتستمر الحرب كما يقال حتى آخر جندي أوكراني، وفوق الأرض الأوكرانية، لكن الخطر الحقيقي يكمن في أن هؤلاء مستعدون للمقامرة بمصائر الشعوب، والطرفان باتا يشعران باحتمال الولوج في مواجهات مباشرة، وعندها بالطبع ستكون مواجهة نووية، وقد أعلن بوتن بوضوح أن مخاطر الصدام النووي يتزايد، مؤكدا مع ذلك أن روسيا لم تُصب بالجنون لكي تستخدم السلاح النووي. حسنا ولكن من يضمن ألا يصاب أحد المسؤولين العسكريين الغربيين بالجنون، ويستخدم ما يسمى بالضربة الاستباقية، وحول هذا الاحتمال قال الرئيس بوتن بوضوح: نعم ستسقط تلك الصواريخ في أراضينا ولكن مجرد أن نتلقى إشعارا من جهاز الإنذار بوجود هجوم صاروخي علينا، ستكون في الجو مئات الصواريخ النووية الروسية التي لا يمكن إيقافها، وسيتلاشى العدو نهائيا... في الحقيقة يمكن أن يتلاشى العالم كله نهائيا، لذا فإن الأمل معقود على ألا يصاب أحد من العسكريين في الناتو أو في واشنطن بالجنون.