المواطن والمجتمع صفر! بقلم: ياسر رافع

المواطن والمجتمع صفر! بقلم: ياسر رافع

تحليل وآراء

الاثنين، ٥ سبتمبر ٢٠٢٢

هناك أسطورة تحكى عن سيدة إسمها ليدى ” جوديفا ” عاشت فى أواخر القرن الحادى عشر، وكانت متزوجة من أمير مقاطعة كوفنترى فى بريطانيا إسمه ” ليوفرك إيرل لميرسا ” ، فقد قامت تلك السيدة والتى كانت محبوبة من قبل الشعب بالتوسط لدى زوجها الأمير ليخفف الضرائب عن كاهل الناس ، ولكن الأمير لم يستجب لها وتحت إلحاح منها فقد عقد معها إتفاق رأه مستحيل التنفيذ ، وإشترط عليها أنه سيخفف الضرائب عن الناس فى حال أنها خرجت عارية تماما وجابت شوارع المقاطعة . فوافقت السيدة ” جوديفا ” وركبت حصانها عارية تماما وبشعرها الطويل غطت ما يمكن تغطيته من جسدها ، وفى المقابل ما إن سمع الشعب بذلك الشرط حتى دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ونوافذهم حتى لا يروا سيدتهم التى ضحت من أجلهم عارية ،

وما أن رجعت السيدة ” جوديفا ” مرة أخرى إلى القصر حتى طالبت زوجها بالوفاء بوعده بتخفيف الضرائب عن المواطنين ، وهو ما حصل فعلا !!

كان هذا فى العصور الوسطى ما قبل الثورة الصناعية ، حيث الظلم والسلطه المتجبرة على الناس بحكم الشكل الإقتصادى الإقطاعى آنذاك والذى يعتبرالناس عبيدا لدى سيد ومالك الأرض !!!

ولكن مع الثورة الصناعية فى أوخر القرن الثامن عشر تغير كل شئ وأصبح النظام الإقطاعى يتلاشى تدريجيا حتى إنتهى ، وأنتهت معه كل أشكال الظلم الإجتماعى ، وظهرت أفكار وفلسفات جديدة تبشرالناس بزمن جديد من المساواة والعدالة الإجتماعية ، ولكن كانت هناك عوارض إجتماعية بدأت تظهر مع إستبدال قوة العمل الجسدية بالألات ، فبعد أن كانت المصانع والحقول تحتاج لعمالة كثيفة أصبح الإستغناء عن العمالة شكلا معتادا مع التقدم التكنولوجى للآلات.

وهذا ما جعل الكاتب المسرحى الأمريكى ” إلمر رايس ” يكتب نصا مسرحيا فى بدايات القرن العشرين ، أسماه ” آلة الجمع ” أو ” الألة الحاسبة ” ، وفيه يرصد علاقة الإنسان بالألة التى أصبحت تزاحمه قوت يومه وتسيطر على حياته ، من خلال شخوص المسرحية والذى أعطاهم أسماءا رقمية بدلا من أسماءهم البشرية مثل ” مستر صفر ” و ” مستر واحد ” وهكذا .

ومن خلال المسرحية  يظهر ” مستر صفر ” كاتب الحسابات الذى تحمل كل ضغوط المجتمع الصناعى الجديد يمضى ساعات طويلة فى العمل يجمع ويطرح بطريقة روتينية بحته ، وسط حياة روتينية فى بيته وفى الشارع وفى مجتمع ينظر إليه على أنه مهمشا لا قيمة له ، وتمر الأيام والسنوات حتى يقرر مديره فى العمل أن يستغنى عنه ويستبدله بألة حاسبة ، هنا ثار ” مستر صفر ” الذى تحمل معيشة صفرية فى أدنى السلم الإجتماعى من أجل أن يعيش ويحصل على وظيفة ، وقام بقتل ذلك المدير ، فى رمزية الثورة ضد التهميش والظلم الإجتماعى  ، لكنه لم يعى مدى قدرته على تغيير الواقع  بسبب واقعه الصفرى المنعدم القدرة على التغيير ، لهذا أماته الكاتب فى المسرحية وجعله فى العالم الأخر شخصا آخر يستطيع أن يختار بين أشياء متعددة ، هنا تظهر حالته الصفرية التى ليس لديها القدرة على الإختيار بسبب تفاهتها وإعتيادها على المهانه ، ويشعر بالخوف والرعب فى حال إختار مصيرا جديدا لا يعرف عنه شيئا ، وهنا يقررأن يختارالعودة إلى حياته فى الدنيا التى ثار عليها حتى القتل ” صفرا ” مهملا لأنه رأى فى حياته السابقة بعض الأمان يجنبه رفاهية الإختيار الذى لا يستطيع تحمل نتائجه .

ومع إشتداد سطوة الرأسمالية وتحولها إلى رأسمالية متوحشة ، ودخول العالم إلى زمن الألة والذكاء الإصطناعى ، زادت أعداد المواطن ” مستر صفر ” وأصبحت المجتمعات مهدده من قبل سيطرة الرأسمالية وربيبتها الأله ، تهديدا من ثورة ” مستر صفر ” الذى أصبح مجرد رقم فى مجتمع أصبح مجرد رقم هو الأخرعلى لائحة الرأسمالية العالمية ، ثورة لا تعرف أى معنى غير أنه يريد أن يتخلص من مجتمع كئيب تسيطرعليه المادة ولا يعرف العواطف ولا القيم الإنسانية ،

وأصبح حلم ” مستر صفر” الذى يشعر بدونية وضعه الإجتماعى نتيجة رأسمالية مجتمع تحول إلى نسخه حديثة من مجتمع القرون الوسطى الإقطاعى ، أن تعود السيدة ” جوديفا ” إلى الحياة مرة آخرى لتتعرى للمرة الثانية كشرط لرفع الضغوط والممارسات الغير آدمية للمجتمع الرأسمالى على الغالبية من المجتمع الذى ينحدر نحوالصفرية بسرعه شديدة منذرا بعواقب لا تحمد عقباها ، أو أن يعتاد الناس الصفرية كما إعتادها رعايا القرون الوسطى .

فهل يستطيع المواطن والمجتمع التخلص من صفريته أمام سطوة الألة فى زمن الرأسمالية المتوحشة والتى حولت العالم والمجتمعات إلى ما يشبه إقطاعيات القرون الوسطى حيث الأغنياء خلف الأسوار بأسماءهم وكنياتهم وبقية المجتمع مجرد أصفار تنتظرأن تتخلص من صفريتها وتعبر الأسوار لتحصل على أسماء وحرية إختيار ! أم ان يعتاد الصفرية كحل تقليدى يعطيه الأمان الوهمى القائم على مفهوم الإستقرار ؟

كاتب مصري