الانحسار الأمريكي.. فتش عن الميزانية.. بقلم: د. منار الشوربجي

الانحسار الأمريكي.. فتش عن الميزانية.. بقلم: د. منار الشوربجي

تحليل وآراء

الخميس، ١١ أغسطس ٢٠٢٢

إذا أردت أن تعرف الوجهة التي تتخذها أي أمة، فتش عن كيفية توزيعها لمخصصات ميزانيتها. وأنت إذا فعلت ذلك تجد نفسك إزاء إجابة السؤال الذي يختلف حوله المراقبون بخصوص الولايات المتحدة. فالجدل محتدم، منذ عقد على الأقل داخل أمريكا وخارجها، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة إمبراطورية في طريقها للأفول، أم أن تلك المقولة أسطورة يصنعها أعداؤها.
فالذين يرفضون مقولة الانحسار الأمريكي يقارنون بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول، فيقولون إنها لا تزال على القمة تفصلها عن غيرها من الدول مسافة شاسعة. أما الذين يصرون على أن الولايات المتحدة في انحسار مطرد فيقولون إن المقارنة الصحيحة ليست بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، وإنما هي المقارنة بين الولايات المتحدة الأمس واليوم.
وكاتبة هذه السطور تميل للرأي الثاني بناء على أسس موضوعية على رأسها موضوع الميزانية الأمريكية. فتوزيع مخصصاتها على البنود المختلفة له دلالات بالغة الأهمية في استشراف المستقبل الأمريكي. فالنخب السياسية الأمريكية بارعة في اختراع العدو ثم تصديق اختراعها لدرجة إعلان الحرب عليه. وهي تصوغ ميزانيتها السنوية انطلاقاً من تلك الأرضية. والميزانية الأمريكية تنقسم إلى نوعين، الأول إجباري والثاني اختياري.
والإنفاق الإجباري هو ذلك الذي لا يستطيع الكونغرس حجبه أو خفضه، بينما الإنفاق الاختياري هو تلك البنود التي تستطيع المؤسسة التشريعية زيادة نفقاتها أو الحد منها أو حتى إلغائها بالكامل. والإنفاق الإجباري هو ما صار يعرف «ببرامج الأحقيات». فهي برامج متى دفع المواطن أقساطها وانطبقت عليه لاحقاً شروط التمتع بمزاياها صار «من حقه» الحصول على تلك المزايا مدى الحياة، دون أن تملك الحكومة أن تخفضها أو تمنعها. ومن هذه البرامج برنامجي الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية للمسنين.
أما الإنفاق الاختياري فهو كل ما دون برامج الأحقيات من نفقات حكومية من التعليم والصحة والنقل إلى الدفاع والأمن القومي. وهنا بالضبط تكمن الأزمة. فالأموال المخصصة لكل الإنفاق الاختياري يلتهم الجزء الأكبر منها الإنفاق العسكري. فميزانية وزارة الدفاع الأمريكية تزداد بشكل مذهل حتى وصلت العام الماضي إلى 800 مليار دولار. ويعكف الكونغرس حالياً على مناقشة ميزانية العام المقبل وهو لا يرغب في الاكتفاء بما طلبته إدارة بايدن من زيادة لميزانية الدفاع وإنما يسعى لرفع تلك الزيادة لتصل إلى 835 مليار دولار. وذلك الحجم المذهل لا يتضمن المليارات الأخرى التي تنفقها الولايات المتحدة على أجهزة استخباراتها ولا على وزارة الأمن الداخلي.
وتقول النخبة السياسية، من الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، إن زيادة الميزانية العسكرية مصدره القلق من تنامي نفوذ الصين وتصاعد ميزانيتها العسكرية، فضلاً عن القلق من روسيا. أكثر من ذلك، فهناك توافق نادر بين الديمقراطيين والجمهوريين تم الموافقة بمقتضاه على دعم مالي قدره 76 مليار دولار للشركات الخاصة العاملة بمجال الرقائق الإلكترونية. وهو الآخر مدفوع بما تعتبره الولايات المتحدة جوهر المواجهة المقبلة مع الصين. المشكل في ذلك يتعلق بالمستقبل. فبسبب التقدم التكنولوجي الهائل في مجال العلاج والذي أدى لإطالة حياة البشر صارت برامج الأحقيات تلتهم جزءاً كبيراً من الميزانية الأمريكية سيزداد مع الوقت ولا يملك الكونغرس تخفيضه.
غير أن هذا في ذاته لا يعني أن مستوى الرعاية الاجتماعية والصحية الأمريكية في أفضل حالاته. ذلك لأن تلك البرامج لا تخص سوى الذين شاركوا فيها عبر دفع أقساطها السنوية، وهي شروط لا تنطبق بالضرورة على الفقراء وخصوصاً من الأقليات.
أما المتبقي من الميزانية، أي الإنفاق الاختياري، فتلتهمه الميزانية العسكرية فلا يتبقى سوى القليل الذي لا يفي بباقي الاحتياجات جميعها، مما يعني المزيد من تقليصها مستقبلياً. ويؤدي كل ذلك إلى أمراض اجتماعية وغضب واسع نطاق، الأمر الذي من شأنه بالضرورة التأثير على مجمل أوضاع المجتمع والسياسة. الانحسار، إذاً، لا يحدث بين يوم وليلة وإنما هو تراكم تدريجي طويل الأمد يستغرق سنوات طويلة وربما عقوداً.