هل تسلك الدول لا إرادياً نهج «التسلط الذكوري»؟.. بقلم: د. محمد عاكف جمال

هل تسلك الدول لا إرادياً نهج «التسلط الذكوري»؟.. بقلم: د. محمد عاكف جمال

تحليل وآراء

الخميس، ٣٠ يونيو ٢٠٢٢

لا يستطيع عنوان هذه المقالة إخفاء ما لسيكولوجية «الرجل» في موقعه «السيادي»، من دلالات مؤثرة على قرارات يسهم في اتخاذها قد يكون بعضها خطيراً جداً.
في سياق ذلك تثار تساؤلات حول مساحة الحرية التي يتمتع بها «الرجل» في عالم اليوم مقارنة بما كان متاحاً له في أزمنة سابقة قبل نشوء الدولة العصرية التي أصبح لها تقاليدها التي تتمايز بها عن تقاليد مكوناتها. هذه التساؤلات تضعنا أمام غرابة ما نستنتجه من هذه المقارنة، فسقف الحرية المتاح الآن لهذا «الرجل» أخفض كثيراً مما كان متاحاً له في تلك الأيام، السبب في ذلك يرجع إلى دخول عملية «التحضر» وما أتت به من تشريعات لصالح القيم الإنسانية التي خفضت إلى درجة كبيرة من سقوف تلك الحريات.
فمع دخول البشرية عصر ما بعد الإمبراطوريات التاريخية، عصر نشوء الدول المستقلة في الشرق الأوسط مع نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم نشوء المنظمات الدولية لاحقاً وتشريع القوانين المحلية لإدارتها والقوانين الدولية لتنظيم العلاقات بينها، ونشوء منظمات ذات طابع مستقل تعمل انتقادياً ورقابياً على ما يجري، واتساع قدرات الأجهزة الإعلامية والمنظمات التي تعنى بمراعاتها، بدأت الستارات الواهية التي تخفي عذابات المغيبين بفعل التسلط الذكوري تتهاوى وتتمزق على صعد عدة، أبرزها التشريعات الدستورية التي مست بعمق الواقع المجتمعي، خصوصاً في تعاظم الدعوات ونجاحها في النهاية في إصدارات التشريعات بتحريم تجارة العبيد.
حظي هذا الموضوع باهتمام بالغ لدى علماء الاجتماع، وحظي باهتمام أبلغ لدى علماء النفس، وعلى رأسهم سيغموند فرويد الذي ذكر في كتاب نشره عام 1930 باللغة الألمانية تُرجم للإنجليزية تحت عنوان «Civilization and its Discontent» وإلى العربية عن نسخته الفرنسية من قبل جورج طرابيشي تحت عنوان «قلق في الحضارة»، بأن «الرجل» يميل بشكل فطري غريزي وعبر موروث تاريخي إلى التسلط والهيمنة المطلقة على ما يحيط به، ولا يقيم وزناً للعوائق التي تعترض إشباع نزواته ولا يتورع عن استخدام أية وسيلة لتحقيقها وبضمنها العنف الذي قد يصل حد التصفيات الجسدية.
«الرجل» من خلال موقعه في الماضي «قبلياً» أو من خلال ثرائه «مالياً» يستطيع ذلك في مرحلة ما قبل نشوء الدولة وفرض حضورها، الذي بدأ بوضع حدود لذلك، عبر وضع اللوائح والقوانين بالمعطيات الحضارية التي تخضعه لنواميسها التي شرّعت قوانين بتفاصيل دقيقة لحماية من يطالهم هيمنته، قوانين من الصعب الإفلات من قبضتها.
في سياق ذلك، لم تستطع ثروات ملياردير أوروبي تزعم حزباً سياسياً وسبق أن شغل منصب رئاسة الوزراء في بلده الحيلولة دون مثوله أمام القضاء وتقبل حكمه بخضوع جراء ممارسة «ذكورية» مستنكرة لا تتفق مع تقاليد المجتمعات المتحضرة والمتشددة في حماية حقوق «القاصرات».
من جانب آخر، أصبحت هذه القوانين بمثابة صمام الأمن والأمان الوحيد أمام الدول الصغيرة للوقوف أمام جيرانها الأكبر حجماً والأشد بأساً. فقد ألزمت الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة جميع أعضاء المنظمة الابتعاد في علاقاتها الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، هذا في الوقت الذي لم تخف المنظمة الدولية قراراتها الصارمة بوجه من يتجاهل ذلك في الفقرات الواردة في الفصل السابع من ميثاقها.
ورغم ذلك لا مفر من الاعتراف بأن نهج التسلط الذكوري، نهج الهيمنة، آخذ في فرض نفسه إرادياً أو لا إرادياً على واقع الحياة اقتصادياً وسياسياً. فحين تنضج كيانات أية مؤسسة مالياً وإدارياً، وتتضخم عضلاتها، وتتنوع مواردها المالية، ويتسع نفوذها وتجد نفسها في موقف القادر على التأثير على مؤسسات أخرى خارج نطاق هيمنتها لإخضاعها لتبني سياساتها ورؤاها وعند الضرورة افتراسها، سواء أكانت هذه المؤسسات اقتصادية أم ثقافية أم كانت مقاطعات جغرافية أم ربما كانت أكبر من ذلك.
من جانب آخر، دفع نهج الهيمنة هذا الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية إلى صياغة النظام الدولي بما يضمن هيمنتها على مقدرات دول العالم أجمع عبر تبوئها مقاعد الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي الذي يتحكم بجميع ما يصدر عن منظمة الأمم المتحدة من استراتيجيات وقرارات.
* كاتب عراقي