عوامل عدة وراء التراجع التركي وجولة «أستانا» قد تكون للتهدئة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

عوامل عدة وراء التراجع التركي وجولة «أستانا» قد تكون للتهدئة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٠ يونيو ٢٠٢٢

تراجعت في غضون الأسبوع الأخير حدة التصريحات التركية التي كان يطلقها مسؤولون أتراك بدءاً من رأس هرم النظام ووصولاً إلى المتحدثين باسم مؤسساته، والتراجع إياه يمكن لحظه بوضوح من خلال التخلي عن استخدام مصطلح «المنطقة الآمنة» الذي يعني السيطرة على الشريط الحدودي مع سورية بعمق يصل إلى 30 كم، لمصلحة استخدام مصطلح جديد أطلق عليه اسم «الحزام الأمني» الذي يعني إبعاد قوات «قسد» عن الشريط الحدودي بعمق يصل إلى المسافة عينها، واللافت أكثر هو أن الحديث الأخير كان يدور حول وجوب أن يحدث ذلك بغطاء روسي، وبجهود الحكومة السورية، ما يمكن تفسيره على أن جولة «أستانا» الـ18، التي باتت على الأبواب، قد تكون محطة للتهدئة تطرح إمكانية التوصل إلى توافق جديد من شأنه أن ينزع فتيل أزمة اصطنعتها أنقرة ثم حاولت الاستثمار فيها عبر حسابات كانت ترى من خلالها أن دور «بيضة القبان» الذي جاءها على طبق من ذهب في غضون الصراع الروسي – الأطلسي الدائر راهنا في أوكرانيا، يجب ألا يمر دون تحصيل مكاسب، والأخيرة تبلغ ذراها على حدود الجوار السوري الذي راحت دوائر صنع السياسة التركية «تنبش» في دفاتر «العثمنة» القديمة عن «ركائز» تبرر الفعل وتشد من عصب «قومييها»، وفي خلفية الصورة هناك نازع نفسي كبير فدمشق يجب أن تدفع الثمن على خلفية إجهاض مشروع استعادة «الإمبراطورية»، إذ لطالما كان الدرس «العثماني» الأشهر يقول إن البداية كانت من دمشق 1516، والنهاية كانت فيها العام 1918 عندما تفككت الإمبراطورية العثمانية بعد خروج الأخيرة عن سيطرتها خريف هذا العام الأخير، والدرس يستحضر حقيقة تقول إن ذلك الفعل، أي فعل تفكك الإمبراطورية، لم يحدث غداة خروج عواصم وازنة مثل القاهرة وبغداد عن تلك السيطرة.
في ذروة العوامل التي أدت إلى تخفيض حدة السعار التركي هناك الموقف الأميركي الذي بدا جاهداً نحو احتواء التصعيد الحاصل في الشمال السوري منذ نحو شهرين لاعتبارات تتعلق بموازين القوى القائمة في شرق الفرات كورقة تستند إليها واشنطن، وتخبئها، ريثما تحل لحظة التسوية النهائية، وهناك الموقف الروسي الذي بدا أقرب إلى العمل من أجل التهدئة دون استفزاز لأنقرة، ولا يمكن بحال من الأحوال فهم ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أنقرة في 7 حزيران الجاري في أعقاب لقائه مع نظيره التركي على أنه بمنزلة «ضوء أخضر» للعملية العسكرية التركية المزعومة وفق ما جرى تحليله عند الكثيرين، لافروف قال: «إننا نأخذ في الاعتبار قلق أصدقائنا الأتراك حيال التهديدات التي تشكلها القوى الأجنبية على حدودهم» ، وهو تصريح «ملزم» بحكم أن بلاده تخوض صراع جوار يقوم في مشروعيته على التهديدات الأمنية القائمة مما وراء الحدود الأوكرانية، وما يدعم هذا الرأي هو أن لافروف سارع بعدها إلى تذكير الأتراك بتعهداتهم في «سوتشي» التي قضت بوقف العمليات العسكرية، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح، والتذكير هنا يندرج في سياقات المرونة للبعد عن الاستفزاز.
ومن تلك العوامل، بل من أبرزها أيضا، هو الموقف الإيراني الذي جاء متصلبا بل ويذهب في حدوده إلى إمكان حدوث مواجهة إيرانية – تركية على الأراضي السورية، فقد نشر موقع «المونيتور» الأميركي تقريرا، قبل عدة أيام، كان قد عنونه «إيران وتركيا تستعدان للمواجهة في الشمال السوري» ، فيما عرض التقرير لعزم إيراني داعم للحكومة السورية في مواجهة أي غزو تركي جديد، في الوقت الذي كانت فيه وكالة «مهر» الإيرانية، القريبة من غرف صناعة القرار في طهران، تحذر من أن الاقتراب من تل رفعت ونبل والزهراء، التي يمثل محورها خط الدفاع عن حلب، سيدفع بمحور المقاومة للتصدي للهجوم التركي، واللافت هو أن ما تظهره التقارير الميدانية يشي بأن طهران ماضية في تصلبها آنف الذكر في منع أنقرة من تحقيق مراميها المتمثلة بربط مناطق «درع الفرات» و«نبع السلام» الواقعتين تحت السيطرة التركية، صحيح أن لا مصلحة لكل من أنقرة وطهران في حدوث مواجهة مباشرة فيما بينهما، لكن التمدد التركي، وفق ما تقرؤه طهران، مخل بالتوازنات القائمة منذ أواخر العام 2016 الذي شهد عودة حلب لحضن السيادة السورية، والرؤية إياها تهيئ لتضارب كبير في المصالح قد يزيد من احتمالية المواجهة إذا أصرت أنقرة على تصعيدها الذي تبين فيه حلب على أنها «المرمى» الأهم، وإذا لم تسنح الظروف بإخراجها عن السيطرة السورية، فليكن البديل هو إخراجها من «الخدمة»، بمعنى إعطاب دورها الذي اضطلعت به على مر المراحل، والذي كان متضارباً بنيوياً مع المصالح التركية.
ستمثل جولة «أستانا» الـ18 فرصة كبرى للتهدئة وإيجاد تفاهمات جديدة خصوصا أن ميليشيا «قسد» باتت أكثر اقتناعاً لتسليم نقاط ارتكازية للجيش السوري، الأمر الذي حصل جزئياً حتى الآن، ومن خلالها ستسعى موسكو لكبح جماح التصعيد المهمة التي باتت حسابات الميدان، وكذا المناخات الدولية والإقليمية، ترجح النجاح فيها، وفي حال لم تنجح الأخيرة في مسعاها الآنف الذكر فإن السيناريو الأرجح، الذي تقود إليه الحسابات والمناخات، أن تفضي المواجهات إلى تكرار المشهد الحاصل العام 2020 عندما استطاع الجيش السوري استعادة مناطق عدة، مثل المعرة وسراقب، الواقعتين جنوب إدلب، والراجح هو أن تلك الحسابات في جزء منها تقف خلف التردد التركي البادي مؤخراً بوضوح.
شيء واحد قد ينسف كل تلك العوامل المحفزة للتهدئة، وهو يكمن في حسابات رجب طيب أردوغان الذي يضيق الوقت أمامه لتحقيق «إنجاز» يستند إليه كرافعة تحمله للفوز في انتخابات شهر حزيران من العام المقبل، فآخر الاستطلاعات تشير إلى أن حزبه يحظى بتأييد 31 بالمئة من الشارع التركي فيما القراءات تقول إن مؤشر السهم «على هبوط»، وهذا وحده، عند شخص كأردوغان، كفيل بأن ينسف كل الحسابات وكل القراءات.