دراما رمضان ومتعة التفكير.. بقلم: أمينة خيري

دراما رمضان ومتعة التفكير.. بقلم: أمينة خيري

تحليل وآراء

الأربعاء، ٤ مايو ٢٠٢٢

كعادته ينقضي شهر رمضان المبارك سريعاً. وكعادته أيضاً يترك لنا قدراً هائلاً من الدراما الرمضانية التي تدفعنا إلى تفكير يدوم بعد انقضاء الشهر الكريم.
السنوات القليلة الماضية شهدت تنامياً لظاهرة – أرى أنها صحية- ألا وهي خروج الكثير من الأعمال الدرامية عن دورها التقليدي المقتصر في أغلبه على الترفيه والتسلية وربما اقتناص ضحكة تشفي القلوب أو حتى الدفع بدمعة تطهر العيون. الظاهرة الدرامية المتنامية تتمثل في تحول العديد من الأعمال الدرامية إلى قوى ناعمة فعلية في المجتمعات العربية.
بالطبع لدينا قوائم من المسلسلات التي عملت على مناقشة قضايا ومشكلات بالغة الأهمية خاصة بالأسرة وكيانها، أو بالأخلاق وصراع الأجيال، أو حتى بالتيارات الدينية المتشددة أو تلك المكتفية بالمظهر المتطرف دون الجوهر، إلا أن السنوات التي تلت اندلاع ما يسمى «رياح الربيع العربي» في عام 2011 أسفرت عن عدد من الأعمال الدرامية الرمضانية التي يمكن وصفها بـ«التنويرية» و(التثقيفية)، والأهم من ذلك الداعية إلى التفكير وإعمال العقل.
إعمال العقل يظل معضلة كبرى في العديد من مجتمعاتنا، حيث يتصور البعض أن إعمال العقل يتعارض مع العادات والتقاليد أو يتناقض مع المنظومة الإيمانية، وهذا غير صحيح بالمرة. فالعادات والتقاليد لو لم تكن مواكبة للعقل ومناسبة للعصر لولت ودبرت قبل قرون، وهذا لم يحدث. والإيمان والتدين في الأصل قائمان على العقل والتعقل، وأكثر الناس تديناً أكثرهم إعمالاً للعقل والتفكر والتدبر.
المشهد الدرامي الرمضاني هذا العام كان عامراً بعشرات القضايا التي حفزت واستثارت عقول وقلوب ملايين المشاهدين للتفكير والنقاش. وهذا في حد ذاته إنجاز عظيم. فبعيداً عن الشد والجذب حول جودة الأعمال فنياً أو حسن اختيار ممثل هنا أو توظيف مشهد هناك، أرى أن دفع المشاهد العربي إلى الدخول في نقاشات حول قضايا تمس حياته اليومية وتتعلق كذلك بمستقبله المبني على حاضره أكبر إنجازات دراما رمضان هذا العام.
هذا العام عمرت المائدة بمسلسلات تتناول مآسي المطلقات والدوائر المغلقة التي يجدن أنفسهن فيها يتعامل معه المجتمع باعتبارها أمراً طبيعياً وثمناً منطقياً على المطلقة أن تدفعه بغض النظر عن أسباب الطلاق أو المتسبب فيه، وعلاقات الصداقة النسائية المتشابكة وقيمة الصدق والأمانة والمصارحة لضمان صحة هذه العلاقة، وحقيقة ما يجري في كواليس الجماعات الإرهابية التي تلتحق بالدين مثل داعش وما تقوم عليه من أفكار ومبادئ وكيفية تجنيد الكوادر، وتوثيق درامي للأحداث الجسام التي مرت بها مصر في سنوات ما بعد يناير 2011 والتي هي وثيقة الصلة بمجريات الأمور في المنطقة العربية كلها، وغيرها كثير.
بالطبع أطباق الوليمة العامرة ليست كلها بالجودة نفسها، وهذا طبيعي. بل يمكن القول إن هناك مسلسلات ما كان لها أن تخرج إلى نور البث أصلاً سواء لرداءة المستوى أو لأنها تهدم قيماً أكثر ما تبني. لكن بحساب المكسب والخسارة الفكري والاجتماعي والثقافي، يمكن القول إن الوليمة مغذية.
وقيمة هذا النوع من الغذاء أن أثره يبقى. بقاء الأثر يكمن في فتح الطريق أمام التفكير والنقاش والمراجعة لما يتحتم مراجعته من أفكار. فالدراما، والفنون بشكل عام، ليست فقط للإمتاع والترفيه وملء وقت الفراغ. لكن جانباً مفترضاً من مهامها، شأنه شأن الصحافة، التثقيف والتوعية ودفع المتلقي لإعمال العقل. وكلما ابتعدت الدراما عن الوعظ المباشر والإرشاد الصريح، وكلما نجحت في تقديم الأفكار وعرض القضايا في قوالب شيقة تجذب المشاهد دون أن يشعر أنه مجبر أو مقيد أو أن أحدهم قرر أن ينصب نفسه محاضراً أو واعظاً عليه، كلما أدت الدراما دورها المرجو منها. صحيح أن البعض ربما يسئ استغلال هذه الأداة ويتمكن من تمرير أفكار هدامة، لكن هذا لا يعني إغلاق باب هذه القوة الناعمة الواعدة، بل يعني مساعدة المتلقي وتمكينه للتفرقة بين الغث والسمين.
والمشاهد الواعي هو نفسه المواطن المسؤول والإيجابي والقادر على التمييز بين الصالح والطالح فيما يعرض عليه من أخبار وتقارير ودراما، وما يتعرض له من محاولات تغييب وعي أو استلاب إرادة أو نيل من العقل والقلب.
دراما رمضان وحدها ليست قوة تغيير أو أداة تصحيح. لكن الفنون تظل إحدى أقوى وأنجع أدوات ومنصات التواصل مع الناس، وترميم شروخ المجتمعات لا بسد الجروح أو تسكين الآلام لكن بفتحها وتطهيرها ومن ثم علاجها عبر الطرح والنقاش.
لا أحمل الدراما أكثر مما تحتمل. هي كانت وجبة رمضانية معتبرة تابعها ملايين، منهم من استمتع، ومنهم من غضب وحنق، لكن هناك أيضاً قاعدة عريضة تفكر فيما طرحته بعض الأعمال من أفكار. والتفكير بداية لا نهاية ولكن يظل غاية.