حروب بوسائل غيرِ نارية.. بقلم: عبد الإله بلقزيز

حروب بوسائل غيرِ نارية.. بقلم: عبد الإله بلقزيز

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٢ نوفمبر ٢٠٢١

هدف كل حرب، كما يحلل، ذلك عالِم الحرب كلاوزڤيتس، هو إخضاع العدو أو الخصم لإرادة مَن شن عليه الحرب. وتُسخر لإنجاز هدف الإخضاع هذا الوسائل كافة، وأولها الوسائل العسكرية لما توفره فعاليتها التدميرية من إمكانيات لشل قدرات الخصم، ولحمله على النزول عند إرادة مُحارِبه. وتاريخ الحروب ليس أكثر من تاريخ صراع بين إرادات متقابلة، والمنتصرون فيها هم أولئك الذين يفرضون على خصومهم إرادتهم، في الصراع، بالقوة: هذه التي ظلت، في الغالب، عسكرية.
لِنَقُل، إذن، إن الجوهر في الصراعات والحروب ثابت لا يتبدل: إخضاع الخصم لإرادة مَن يقاتله. أما وسائل الإخضاع فمتغيرة؛ فقد تكون عسكرية أو اقتصادية أو غيرهما. فعالية الوسيلة، وشروط إمكانها، ودرجة احتدام التناقض والصراع، وضوابط العلاقات بين الدول والأمم، وأحكام الجغرافيا، ومستوى التوازن في القوى العسكرية، وحساب كلفة الربح والخسارة من استخدام هذه الوسيلة أو تلك... هي التي تقرر - مجتمعة أو منفردة - أمر نجاعة هذه الوسيلة أو تلك والفائدة من استخدامها. إذا كانت السيطرة الاستعمارية على العالم غير الغربي، مثلاً، قد اقتضت توسّل أدوات الحرب العسكرية لإخضاع البلدان الموطودة وتحويلها إلى مستعمرات، فإن الهيمنة الغربية، في الحقبة الإمبريالية ثم العولمية، لم تكن في حاجة إلى القوة المسلحة للإخضاع؛ فلقد كانت علاقات التبعية وإعادة إنتاجها تكفي لتأدية ذلك الغرض.
يمكن لحروب جديدة، اليوم، أن تكون فتاكة، وبالتالي، ناجعة في تحقيق الأهداف عينها التي تحققها الحروب المسلحة، ولكن من غير حاجة إلى استخدام وسائل نارية فيها. بل لعلها تكون أقل كلفة على مَن يشنها؛ حيث لا جنود له يسقطون في الميدان - قتلى أو جرحى أو أسرى- ولا خسائر في العتاد، ولا إنفاق لمال على المجهود الحربي؛ وحيث لا احتجاجات على الحرب في شارعه، أو في المجتمع الدولي... إلخ. ويمكنه أن يبررها لنفسه بأنها لا تُحدِث دماراً في ساحة خصمه، ولا تهجيراً للمدنيين من مناطقهم، وإنما تكتفي بمعاقبة النظام الحاكم والضغط عليه لحمله على التنازل عن سياساته المعادية. ومن أمثلة هذه الحروب التي صارت تجري بوسائل غير نارية - على مساحة واسعة من العالم - الحروب والحصارات الاقتصادية.
تم اللجوء إلى الحروب الاقتصادية في مراحل سابقة بين الإمبراطوريات، ولكن أنظمة العالم الحديث ومعاهداته لم تُفلِح في إنهاء إمكانها فلجأت إليها دول رأسمالية عدة سرعان ما انتهى بها الصراع على المصالح ومناطق النفوذ إلى صدام هائل في الحربين العالميتين الأولى والثانية. أما الحصارات والعقوبات الاقتصادية فطُبقت، أحياناً، بتشريع من القانون الدولي وإجازة من مجلس الأمن ضد دول بعينها اتّهِمت بانتهاكها للقوانين والمعاهدات. وكانت إما جزئية، تتعلق - مثلاً- بحظر توريد الأسلحة إليها، أو كلية كما في الحصار الاقتصادي المطبق ضد العراق بعد غزو قواته الكويت. ولكن دولاً كبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا... سمحت لنفسها بأن تلجأ إلى سلاح العقوبات الاقتصادية، من جانب واحد، فمارسته ضد دول وشعوب تحكمها أنظمة سياسية معادية، من دون أن تستند في ذلك إلى قرار دولي يجيزُه! وهذا هو الغالب على هذا النوع من الحروب الاقتصادية والحصارات التي يشهد عليها العالم منذ انتهاء الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي.
تدّعي الدول الماضية في تطبيق سياسات العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي على دول أخرى أن هدفها من ذلك معاقبة أنظمة تلك الدول على سياساتها «المنتهكة» القانون الدولي أو لحقوق الإنسان، أو على سعيها في تطوير أسلحة تهدد بزعزعة الاستقرار في العالم. تقول ذلك، في العادة، من باب تبرير حربها الاقتصادية والادعاء بأنها تستهدف الأنظمة الحاكمة لا شعوبها.
وبصرف النظر عن بطلان الدعوى بارتباط سياساتها ب «الدفاع» عن القانون الدولي وحقوق الإنسان والسّلم والاستقرار العالميين - لأنه ما من أحد فوّضها القيام بذلك نيابة عن مؤسّسات النظام الدولي- فإن حروبها الاقتصادية لا تُؤذي الأنظمة والنخب الحاكمة؛ بل تأتي بأشد الأذى على حياة الشعوب وأقواتها ومقدراتها وأنظمتها الغذائية والصحية التي يلحقها التدمير من العقوبات إياها، ناهيك بمن يقضي جراءها من ملايين الأطفال.
وليس من شك في أن أسلوب العقوبات الاقتصادية والمالية والحصار والتجويع وتدمير المنظومات الغذائية والصحية، هو فعْل من أفعال العقاب الجماعي التي تطال الشعب المحاصَر بأكمله. وهو، بالقطع، لا يقل أذى عن المَقَاتل الجماعية التي تقترفها الحروب، حتى لا نقول إنه أسوأ منها بكثير؛ لأن القتل فيه يجري ببطء ويحدُث في شكل من الإذلال لمن يقع عليه. وما أغنانا عن القول إنه فعل مجرد من أي مبدإ أخلاقي يؤسسه، وأن القوة فيه فاحشة والعنف أعشى. والأهم - في ما يعنينا - أنه أسلوب لا يمكن أن يأتيه إلا مَن سَكَنَته عقيدة القوة وأَعمته القوة.