الفوضى المعلوماتية.. بقلم: أحمد مصطفى

الفوضى المعلوماتية.. بقلم: أحمد مصطفى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٢ سبتمبر ٢٠٢١

من النتائج المهمة للتطورات التكنولوجية في العقدين الأخيرين، سهولة وصول الناس إلى المعلومات عبر الإنترنت وبوفرة استثنائية لم تحدث مع اختراع الطباعة وتطورها، ولا حتى مع انتشار الإذاعة والتلفزيون. ساعد على ذلك أيضاً تطور الإلكترونيات التي توصل الناس بالإنترنت، فلم تعد قاصرة على أجهزة الكمبيوتر بأنواعها؛ بل أصبحت الآن في أغلبها عبر أجهزة الهواتف الذكية. ففي الولايات المتحدة يزيد عدد مستخدمي الهواتف المتنقلة للوصول إلى الإنترنت على 80%، وهناك نمو هائل في الصين لاستخدام الهواتف الذكية في الوصول إلى الإنترنت، خاصة مع توفر شبكات الجيل الخامس التي تجعل ذلك الوصول أسرع من قبل.
وأتاحت تطبيقات التواصل والدردشة مشاركة المحتوى الهائل الذي تخزنه محركات البحث مثل «جوجل» وغيرها من المعلومات المنشورة أو التي يتم تحويلها إلى محتوى رقمي. ومع لجوء منافذ الإعلام والنشر إلى الوسائط الرقمية، يتضاعف حجم المحتوى المعلوماتي الرقمي باطراد. ليست هذه الوفرة الهائلة من المعلومات بالأمر الإيجابي تماماً، خاصة أن من طبيعة الإنترنت منذ إطلاقها أنها تتيح لأي شخص أن ينشر أي شيء ليكون في متناول مئات الملايين حول العالم، دون أي قيود قيمية أو أخلاقية أو أي مرشحات من أي نوع. وإذا كان البعض يستخدم برامج حماية لترشيح المحتوى على الإنترنت، فإن ذلك في أغلب الحالات يتضمن حجب مواقع لأسباب سياسية أو دينية. لكن ذلك لا يحمي من انكشاف الجمهور على فيض هائل من المعلومات المفبركة والمغلوطة التي تستهدف الدس والتضليل عبر التلفيق.
برزت خطورة هذه الفوضى المعلوماتية مع استخدام دول وجهات لمواقع التواصل وتطبيقات رقمية للتأثير في الشؤون الداخلية لدول لأخرى. فالولايات المتحدة ما زالت تحقق في تدخل جهات مدعومة من الحكومة الروسية للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية في 2016 و2020. وهناك اتهامات أيضاً لجهات تدعمها الصين، أو جهات رسمية إيرانية، باستخدام المحتوى على الإنترنت كوسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى.
صحيح أنه مع تطور التكنولوجيا يتم تطوير برامج للتدقيق والتمحيص في أصالة المحتوى، خاصة كشف تزوير الصور والفيديوهات والمحتوى الرقمي البصري عموماً، لكن ذلك ليس كافياً لمنع «تسرب» كمّ هائل من المعلومات والبيانات الملفقة والمضللة التي يشاركها كثيرون بحسن نية أحياناً. وفي النهاية، من الصعب القول ما هي نسبة المعلومات «الأصيلة» التي يمكن استهلاكها دون خوف من الضرر الناجم عنها، سواء كان ضرراً مقصوداً من دول أو أجهزة، أو ضرراً عرضياً من مشاركات دون وعي. وفي كل الحالات يؤدي ذلك إلى تضليل عام و«تمييع» للوعي العام، بما يسهل الترويج لأي شيء على أساس أنه «وجدناه على جوجل»! أو «هذا من موقع موثوق به» أو «هذا كلام عالم خبير في مجاله» وهكذا.
لا يعني ذلك أن الفائدة من تسهيل الوصول إلى المعلومات ليست كبيرة بفضل الإنترنت، ولا أن حصر الوصول إلى المعلومات على فئة معينة (نخبة) هو الأفضل، لكن هناك فارق بين حرية الوصول إلى المعلومات وبين الفوضى التي سببتها الإنترنت والوصول إليها عبر الهواتف الذكية.
الأمثلة كثيرة ومتعددة، لكن من المهم هنا مثال في غاية الأهمية والخطورة ربما لا يُلتفت إليه كثيراً. في الإعداد لحرب عام 2003 لغزو واحتلال العراق، استخدم رئيس الوزراء البريطاني مبرراً من تقرير للمخابرات البريطانية، خلص إلى أن النظام العراقي وقتها يمكنه إنتاج قنبلة نووية في غضون نصف ساعة. انكشفت الكذبة بعد ذلك، واتضح أن المخابرات البريطانية استندت إلى مصادر لفقت بيانات ومعلومات من على الإنترنت كلها مزيفة وليست أصيلة.
بالتأكيد، هناك كثير من القرارات الخطرة في أماكن كثيرة من العالم، اتخذت في العقدين الأخيرين على أساس معلومات وبيانات من على الإنترنت اتضح بعد ذلك أنها مجرد تلفيق أو على الأقل «أنصاف حقائق» مضللة أكثر من الكذب المباشر.
الأكثر خطورة هو أن تلك السهولة والوفرة جعلت الاعتماد على مراكز البحث والدراسات ودعم اتخاذ القرار التقليدية يتراجع؛ بل إن تلك المراكز نفسها، وكرد فعل على إهمال صانع القرار لها لما يتوفر لديه من محتوى لا يحتاج إلى جهد أصبحت تميل أيضاً إلى الاستسهال ومجرد إعادة تدوير محتوى رقمي على الإنترنت، وتلك كارثة حقيقية إذا استمرت هكذا.