هؤلاء القابضون على الجمر.. بقلم:  عبد المنعم علي عيسى

هؤلاء القابضون على الجمر.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٥ أغسطس ٢٠٢١

 
أظهرت مقاطع مصورة خرجت للعلن قبل أيام مشاهد اعتداء بعض اللبنانيين على طاقم راجمة صواريخ تابعة لحزب اللـه كانت قد نفذت للتو قصفاً على الأراضي الفلسطينية المحتلة رداً على قصف إسرائيلي كان قد طال أراضي لبنانية شبه خالية، والمقاطع تظهر بوضوح محاولات اعتداء على أفراد الطاقم وشتمهم الذي طال شخصهم وكذا الحزب الذي يقاتلون تحت رايته جنباً إلى جانب علم الوطن الذي ما انفكوا يعمدون انتماءهم له بالحديد والنار.
هذا الحدث، على الرغم من محدوديته، لكنه مؤشر مهم على أن الزرع الآن بات مستحصداً، وما نقصده هنا بالزرع ذاك الذي جرى العمل عليه في الداخل اللبناني، وكذا في محيطه، لتشويه صورة الحزب بدءاً من حادثة اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري شباط من العام 2005، ثم بعيد نشوب حرب تموز 2006، التي غابت فيها ملحمة الصمود التي سطرها الحزب على مدى 33 يوماً من القتال ضد أعتى أنواع الأسلحة، لصالح صورة أرادت إظهار الحزب كما الساعي لاستجرار عدوان يمكن أن يعيد لبنان إلى «العصر الحجري» وفقاً لتصريحات أكثر من مسؤول إسرائيلي في تلك المرحلة، وعلى الرغم من أن تكشف الوثائق التي جرى تسريبها لاحقاً، كان قد اثبت أن العدوان مبيّت، ولم يكن إلا في سياق مخطط إسرائيلي لضرب قدرات حزب اللـه المتنامية، وكذا لضرب البنى التحتية اللبنانية بهدف إظهار الحزب بصورة المتسبب بكل ذلك الدمار الذي لحق بلبنان، إلا أن ذلك لم يستطع استمالة شرائح وازنة في النسيج اللبناني كانت تتبنى النظرية القائلة بأن الحزب ماض في انتهاج أجندة خارجية خدمة للمشروع الإيراني في المنطقة.
في 8 حزيران من العام 2010 قدّم جيفري فيلتمان الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي أمام مجلس الكونغرس الأميركي الشهادة التالية «منذ العام 2006 إلى اليوم (أي العام 2010)، قدمت الولايات المتحدة للبنانيين أكثر من 500 مليون دولار أميركي بهدف تنمية لبنان وضمان استقراره»، قبل أن يعمد في تلك الشهادة إلى تقديم اعتراف من النوع الصادم جاء فيه أن «العنوان الأساسي لتلك الأموال كان ولا يزال هو الحد من جاذبية حزب اللـه لدى الشباب اللبناني»، وإذا كان من الصعب معرفة ما قدمته الولايات المتحدة في غضون العقد الفائت الذي تلا ذلك الاعتراف لعدم توافر وثيقة كتلك التي قدمها فيلتمان، فإن العديد من المؤشرات توحي بأن الأرقام تضاعفت قياساً إلى الانزياحات التي شهدها المجتمع اللبناني في هذا الاتجاه، دون أن نقصد هنا أن فعل الانزياح ماض في سياقاته تلك بفعل خارجي فحسب، إذ لطالما كان من المؤكد أن ثمة عوامل داخلية حاكمة هي الأخرى لتلك السياقات، والجدير ذكره هنا، مما يستدعيه إيضاح الصورة أكثر، أن بعضاً من تلك العوامل «الداخلية» تندرج في سياقات خارجة عن إرادة اللبنانيين أنفسهم مثل طبيعة النظام اللبناني القائم والذي بات يظهر عبر محطاته الأخيرة بنية مأزومة تطال ركائزه التي يقوم عليها، لكن بعضها الآخر يندرج في سياقات هي من نتاج اللبنانيين، بما فيهم مكون حزب اللـه المحكوم بآليات لا تستطيع الخروج كثيراً عن تلك «المنتوجات»، انطلاقاً من قاعدة تقول إن حجم الضغوط التي تتعرض لها البلاد هي من القوة بحيث تدفع لتأجيل المعالجة للعديد من الملفات بذريعة أنها لا ترقى إلى مستوى الملفات الملحة ذات التأثيرات المباشرة.
من الواضح هنا أن الخارجين، الأميركي والإسرائيلي بالدرجة الأولى، يعمدان إلى إظهار حزب اللـه بصورة هي أقرب إلى «أهل الكهف»، لكن بعيداً عن المعنى الديني الذي كرسه وصف البارئ لهؤلاء بقوله: «هؤلاء فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى»، حيث الفعل هنا يهدف إلى خلق مناخات محيطة بهم سوف تؤدي بفعل عامل الزمن الثقيل إلى أن يجد مقاتلوه أنفسهم وسط محيط لا يفهم لغتهم، ولا هو قابل لأن يبيع لهم بالعملة التي يحملونها، حتى مظاهرهم وعقائدهم تبدو غريبة على ذلك المحيط، والفعل، وفق تلك التصورات، سوف يؤدي في النهاية إلى تلاشي الظاهرة، هذا إن لم يدفع بأبطالها إلى قرار العودة من جديد إلى الكهف والدخول في سبات أبدي.
هذا التصور يمتلك من الواقعية الشيء الكثير، دون أن يعني بالضرورة أنه قدر نافذ لا مفر منه، فالنفس العام الذي تعيشه المنطقة غير داعم لمناخات المقاومة التي نقصد بها هنا مواجهة المشروع الإسرائيلي الرامي للهيمنة على المنطقة، والنسيج الذي كانت فكرة المقاومة تعتد به بات مثقلاً بحمولات يصعب حصرها مما يدفع به إلى التفكير اليومي بعيداً عن استبيان مرامي الخارج البعيدة المدى، حتى إن العديد من النخب التي كانت تذهب إلى دعم ذلك المشروع، باتت اليوم تسوق لفكرة أن الصراع العربي الإسرائيلي قد حسم، وإسرائيل كرست نفسها كياناً متفوقاً على كل الأصعدة وبكل المقاييس.
يوم 4 آب الجاري دعت السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا 16 جمعية مدنية تندرج بالتأكيد تحت راية وثيقة فيلتمان سابقة الذكر، مدعومة بأدوات إعلامية لبنانية، والهدف من الدعوة هو الحشد لتظاهرة مليونية تمضي في مسارها الأخير للسيطرة على مبنيي البرلمان والسراي الحكوميين، والصورة الأهم التي يراد رسمها من خلال ذلك المشهد هي القول بأن حزب اللـه هو المسؤول الأول والمباشر عن المآلات التي صار إليها لبنان، والفعل سيؤدي، كما يفترض المنظرون، خروج «الصامتين» عن صمتهم للانضمام إلى «النواة» التي جهد الخارج في إنضاجها وتقويتها على أمل أن تساعد الانهيارات الحاصلة راهناً في تعميم تأثيرها لتسود الساحة اللبنانية، وفي 19 من آب أعلن السيد حسن نصر اللـه في كلمة ألقاها بذكرى عاشوراء أن سفينة إيرانية محملة بالنفط ستقلع من الموانئ الإيرانية باتجاه نظيرتها اللبنانية، وأن الناقلة ستكون بعيد إقلاعها من تلك الموانئ «أرضاً لبنانية»، والمؤكد أن القول لا يستدعي شروحات لفهمه أو لما هو أراد الذهاب إليه.
هذه معادلة إقليمية جديدة، أريد رسمها بحسابات لا يدركها الخطأ، للقول إن القبض على جمر الداخل لا يعني على الإطلاق الهروب من السير عليه أيضاً إذا ما كانت مصلحة لبنان تقتضي ذلك.