أبعاد ودلائل الإذلال الأميركيّ في أفغانستان.. بقلم: أسعد أبو خليل

أبعاد ودلائل الإذلال الأميركيّ في أفغانستان.. بقلم: أسعد أبو خليل

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٣ أغسطس ٢٠٢١

لم يحظَ الانسحاب الأميركي المُذلّ من أفغانستان بتغطية على مواقع التواصل الاجتماعي العربيّة، ولم يحظَ انسحاب أميركا من لبنان في 1984 بتغطية على مواقع التواصل الاجتماعي. وينسى البعض أن انسحاب أميركا من لبنان في زمانه كان مُذلّاً للقوّة العظمى إلى درجة أن رونالد ريغان لم يطلق وصف انسحاب على… الانسحاب، بل وصفه بـ«إعادة الانتشار». أميركا، يُقال، هنا وهناك، تسعى منذ هزيمتها في فيتنام إلى محاولة التقاط سمعتها بعد انتصارات الحرب العالميّة الثانية (لا تزال السرديّة الأميركيّة والأوروبيّة تغمط للجيش الأحمر حقَّه في الإسهام الكبير في تحرير العالم من الخطر النازي). وعقدة فيتنام تتبدّى أكثر ما تتبدّى بالرغبة، لا بل الحماسة، في استعمال المزيد من الوحشيّة في الحروب التي تخوضها أميركا منذ السبعينيّات. وشهيّة أميركا للحروب زادت كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عندما لم يكن يقف في طريقها لشنّ الحروب، وفي كسب تغطية مجلس الأمن في الأمم المتحدة، أي عائق. فقط بعد 2011 وقرار مجلس الأمن «بحماية المدنيّين» في ليبيا، واستغلال أميركا للقرار لشنّ حرب مدمّرة لا تزال ليبيا تعاني منها، تبلورت معارضة روسيّة وصينيّة ضدّ محاولة أميركا نيل تغطية دوليّة لحروبها التي لا تنتهي. لم تتوقّف أميركا عن شنّ الحروب منذ الغزو العراقي للكويت في 1990. أصبحت الحروب ـــــ وعن قرار ورغبة القيادة السياسيّة والعسكريّة ـــــ فرصة لتصليب التدريب العسكري والإعداد للقوّات المسلّحة العسكريّة. والصين، المنافس الذي يقضّ مضاجع المسؤولين الأميركيّين، تفتقر لإعداد وتدريب عناصر جيشها، لأنها لم تخُض حرباً منذ الحرب الفيتناميّة ـــ الصينيّة في عام 1979. لكن الصين ليست متسرّعة في فرض نفوذها السياسي حول العالم.
سيكون للقرار الأميركي تأثير كبير على التدخّل العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وخارجه. حلفاء أميركا الطغاة في الخليج أبدوا ذعراً وتخوّفاً من القرار الأميركي. أتباع التحالف السعودي ـــ الإماراتي تباكوا على «المترجمين الأفغان» الذين تركتهم أميركا خلفها (جميلٌ وصف «المترجمين» لكلّ المتعاونين المحليّين مع الاحتلال الأميركيّ، وبينهم مجرمون وقتلة شاركوا في حفلات التعذيب في قاعدة بغرام العسكريّة). أتباع التحالف السعودي ـــ الإماراتي نسوا أن صعود طالبان لم يمكن ممكناً من دون تمويلهم وتسليحهم في التسعينيّات. الملوك والشيوخ أصبحوا ليبراليّي الذائقة. كيف يمكن أن تترك أميركا حلفاءها بهذه السرعة وبهذه الطريقة المُهينة؟ والإعلام الخليجي بات موجّهاً نحو الغرب أكثر بكثير ممّا هو موجّه نحو العالم العربي. ولهذا، فقد أنشأ حكّام السعودية والإمارات مواقع وصحفاً بالإنكليزية لأنهم يهتّمون برضى دول الغرب وحتى الرأي العام في تلك الدول. لا يخاطب أحد من هؤلاء الحكام جمهور العالم العرب. لا حاجة عندهم لذلك. لا يعلم العرب كم تنفق هذه الدول على أعمال الخير والإحسان وتمويل جامعات في الغرب. هم يريدون أن يشتروا تغطية إيجابية لطغيانهم وحروبهم ومؤامراتهم، وقد نجحوا في ذلك. أدركت الإمارات وقطر والسعودية أهمية التأثير على إعلام واشنطن وعلى مراكز الأبحاث فيها. وقد ركّزت استراتيجيّة سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، على كسب أقطاب مراكز الأبحاث. وقد أظهرت مراسلات تسرّبت كم أن عاملين في مراكز الأبحاث كانوا ينسّقون معه مباشرة فيما يكتبون ويقولون (اللبناني، بلال صعب، الذي تقلّب بين مراكز الأبحاث، كان يجهد كي ينال رضى العتيبة ـــ لكن، لنعترِف، اللبناني أبرع وأشطر من غيره في السجود لطغاة الخليج، ولأفراد حاشيتهم).
القلق الخليجي من الانسحاب الأميركي له أسبابه المشروعة. الطغاة هناك يرون بأمّ العيْن كيف أن خيار التدخّل العسكري المباشر من قبل أميركا اضمحلّ كثيراً عبر السنوات بسبب الإخفاقات والهزائم المتوالية. لم تنفق أميركا على حروب ولم ترمِ نيراناً بكثافة كما رمت وأنفقت على حرب العراق وأفغانستان. واستخلاص دروس التجربتيْن يكون في صلب منهج الكليّات العسكريّة الأميركيّة. طبعاً، لا يمكن القول ـــــ على طريقة التحليلات الأميركيّة ـــــ أن الاحتلال كان يمكن أن ينجح لو أن أميركا فعلت هذا أو ذاك، أو لو أنها كثّفت من حمم نيرانها، أو لو أنها لجأت إلى الخيار الذرّيّ (كان هناك بحث جدّيّ في الحرب في أفغانستان في 2001 في صوابيّة استعمال قنبلة نوويّة هناك). الاحتلال يناقض مشيئة الشعوب، وأميركا أقلّ دولة مقبوليّةً من قِبل العرب والمسلمين (نتحدّث عن الشعوب لا عن الحكّام الذين يتبارزون في استضافة القواعد العسكريّة وفي طلب الودّ الأميركي. نعلم اليوم كم بذل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد لمجرّد الحصول على لقاء مع ترامب بعد انتخابه).
إمبراطوريّة أميركا تستطيع أن تفني بلداً بحاله في مدّة قصيرة لكنها لا تستطيع أن توطّد دعائم احتلالها في دولتيْن أنفقت فيهما الترليونات (6,4 تريليونات، كي أكون دقيقاً). لولا خوف العراق وأفغانستان من العقوبات الأميركية فإنه كان سيكون للبلدين سياسة شديدة العدائيّة نحو أميركا (بعد ساعات من وصول طالبان إلى كابول، قرّرت الحكومة الأميركيّة مصادرة المليارات من أموال حكومة أفغانستان وتبعها صندوق النقد في إجراءات مماثلة). تكتشف أميركا أن تجربة اليابان أو ألمانيا حيث نجحت أميركا في خلق ثقافة سياسيّة ملائمة لها لن تتكرّر. لكن أحداً لا يذكر أن أميركا أبقت على قوات عسكريّة لها في كلّ من ألمانيا واليابان. هل خيارات اليابان وألمانيا السياسيّة ستكون مختلفة من دون وجود قوات أميركية؟ بالتأكيد. في عام 1983، تظاهر الشعب الألماني الغربي على مدى عشرة أيام متواصلة ثم تجمّع نحو مليون متظاهر للاحتجاج على نشر صواريخ «برشنغ 2» في البلاد. كانت تلك التظاهرة الأكبر في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية. والقواعد العسكريّة في اليابان لا تزال تثير حفيظة الشعب الياباني بسبب تكرار حوادث الجرائم الجنسيّة من قِبل جنود خارج القوات العسكريّة الأميركيّة. أميركا قرّرت بعد 2001 أن القوة العسكريّة الوحشيّة، وتجاهل كلّ قوانين الحرب ومعايير حقوق الإنسان ستفرض على شعوب المنطقة المشيئة الأميركيّة. ينسى البعض، أن إدارة بوش كانت تعرض حربها في أفغانستان والعراق على أنهما البداية فقط، وأن نجاح التجربة سيؤدّي إلى سقوط تلقائي ـــــ أو إلى حروب أميركيّة جديدة ضدّ ـــــ أعداء أميركا في المنطقة. كان مفاد نظريّة المحافظين الجديد أن نجاح النماذج الديمقراطيّة في العراق وأفغانستان سيُبهر العالم العربي والإسلامي وسيجعل منه تابعاً للسياسات الأميركيّة. لكن هذا الجدال لا يجب أن يجري على الطريقة الأميركيّة للبحث في أهلية العرب أو المسلمين للديمقراطيّة أو للبحث في أخطاء تطبيق الديمقراطيّة. أميركا لم تكن في وارد دفع الخيار الديمقراطي، لا في أفغانستان ولا في العراق. لم تكن أميركا يوماً بعد الحرب العالميّة الثانية في وارد قبول الديمقراطيّة في بلادنا. أميركا عارضت كل المسارات الديمقراطيّة في العالم العربي والشرق الأوسط، وهي ناصرت كلّ الانقلابات والحروب ضد الديمقراطيّة: من الانقلاب ضدّ مصدّق في إيران في 1953 إلى الحرب الانعزاليّة ضد النظام اللبناني (على سوء نسقه الديمقراطي المُشوّه، لكن أميركا دعمت الحرب الانعزاليّة التي أرادت جعل النظام اللبناني أسوأ بكثير مما كان عليه، والتجربة الفاشيّة لبشير الجميّل في مناطق نفوذه كانت نموذجاً عمّا أرادت إسرائيل وأميركا تعميمه علينا) والانقلاب على السيسي والانقلاب الأخير ضد «النهضة» في تونس. أميركا عارضت كلّ خيارات الاقتراع الحرّ في العراق، وهي لم تسِر به إلّا بعد أن أصرّ السيستاني عليه (كم كان إدوار سعيد يتبرّم من أن أستاذ القانون في جامعة هارفرد، نواه فيلدمان، أعدّ للشعب العراق دستوراً وتبنّته إدارة الاحتلال الأميركي). هذه معضلة أميركا في بلادنا: تريد أن تسوّق لنفسها بشعارات الحرية والديمقراطيّة لكنها ترعى وتدعم وتسلّح النظم الاستبداديّة من المغرب إلى الخليج، وهي تعلم أن الخيار الديمقراطي يضرّ بثوابت سياساتها: عن إسرائيل والنفط ومصالح الإمبراطوريّة. لا يمكن توفير ما تريده أميركا في بلادنا عبر الديمقراطيّة.
الذين يستنجدون بأميركا لتخليصهم من حزب الله لم يستوعبوا بعد فشلها في العراق وأفغانستان، وحتى في لبنان حين كانت القوى المناهضة للاحتلال أضعف بألف مرّة من اليوم
 
لم تحاول أميركا في أفغانستان قطُّ أن تؤسّس لنظام ديمقراطي. لم يكن هذا وارداً. هي أرادت أن توصل أزلامها (في «التحالف الشمالي» وفي المهاجر الخليجيّة) إلى السلطة بترتيبات محضّرة سلفاً. لم تجرِ انتخابات ديمقراطية حقيقيّة في أفغانستان مرّة واحدة (مع أن وليد جنبلاط اعترف في حينه أن حروب بوش والانتخابات في العراق ألهمته كي يعتنق عقيدة بوش، لكن جنبلاط يحبّ نشيد «موطني» ما يضفي طابعاً قوميّاً عربيّاً على علاقته بجيفري فيلتمان). فقط بعد سقوط حكم أشرف غني اعترفت الصحافة الأميركيّة أنه زوَّر آخر انتخابات له، كما كان حميد كرزاي يزوّر انتخاباته من قبل وبرعاية أميركيّة. لكن بوجود قوات الاحتلال الأميركي، إن المسؤوليّة في كلّ ما يجري في البلد من قتل وتدمير وفساد وتزوير يقع على عاتق المحتلّ، لا على أدوات المحتلّ. وأشرف غني حالة مفيدة لنا في لبنان. هذا رجل يمثّل نموذج التكنوقراطيّة في الحكم (ينسى الناس أن فؤاد السنيورة قبل أن تضعه أميركا في رئاسة الوزارة، كان تكنوقراطيّاً وناشطاً في «النادي الثقافي العربي» عندما كانت القومية العربيّة مؤيّدة لطروحات جمال عبد الناصر). أشرف غني، مثله مثل زلماي خليلزاد، درس في الجامعة الأميركيّة في بيروت وكان ماركسيّاً. يتذكّر معاصروه في بيروت أنه كان الطالب المفضّل لحنا بطاطو الذي دفعه لنيل الدكتوراه في جامعة كولومبيا. ودرّس غني مادة الإنثروبولوجيا في جامعات أميركيّة قبل أن يستقرّ في البنك الدولي. ضاقت أميركا ذرعاً بحميد كرزاي لأنه بات يتبرّم من عدد القتلى المدنيّين الذي يسقطون دوريّاً بالقصف الأميركي، كما أنه اعترض على الغارات الليليّة التي كانت القوات الخاصّة الأميركيّة تشنّها على منازل المدنيّين. واستبدال الدمية بأخرى تقليد أميركي في سياساتها الخارجيّة. إن شدّة ولاء وخوف محمد بن سلمان من إدارة بايدن هو علمه أنها تستطيع أن تستبدله بقريب له لو أرادت. وفي العراق، كانت الإدارة الأميركيّة تستبدل الدمية الشيعيّة بأخرى في رئاسة الحكومة (كيف اتّفق أن أداة الاحتلال، نوري المالكي، تحوّل إلى عنصر في محور الممانعة؟ هذا يحتاج إلى تفسير).
إنّ فهم مشكلة أميركا العويصة يحتاج إلى قراءة «تقرير المفتّش العام لإعادة إعمار أفغانستان» ولقد صدر قبل أيام فقط. التقرير يذكّر بفشل وهزيمة الاحتلال الأميركي في فيتنام. لم تتّعظ أميركا، ولا تتعظ الإمبراطوريات المغرورة. هي لا تحتاج لأن تكوّن على معرفة بالشعوب التي تقهرها، هي تعرف ما تحتاج لأن تعرف. الصحافي سيمور هيرش وصف الكتاب العنصري، «العقل العربي» (لمؤلّفه رافائيل باتاي) بأنه لعب دورَ الكتاب المقدّس لقوات الاحتلال الأميركي في العراق. حتى في ممارسة التعذيب النفسي والجنسي، كان الكتاب هو مُرشد المجرمين الذين ارتكبوا الفظائع ضدّ حقوق المساجين العراقيّين. يشرح تقرير المفتش العام أن أسباب الفشل الأميركي متعدّدة ومتنوّعة: فشل الاحتلال في بلورة هدف للاحتلال، وفشل في إيجاد مواعيد معقولة لتحقيق بناء أفغانستان. وأن المسارعة في الإنفاق زادت من حجم الفساد المستشري (أليس ظريفاً أن هناك في لبنان من يناشد أميركا ـــــ يسمّونها عندنا «المجتمع الدولي»، تهذيباً ـــــ بأن تأتي إلى لبنان كي تخلّصه من الفساد؟ وهل هناك فساد أسوأ من الفساد الذي خلقته أميركا في العراق وأفغانستان؟ وأليس معظم الفاسدين في لبنان هم أزلام أميركا بالدرجة الأولى؟). لكن الطرافة في تقرير المفتّش العام تكمن في تكرار استخلاص الدروس من تجربة فيتنام (كم عقدت وزارة الدفاع الأميركيّة من جلسات وورش عمل لاستخلاص دروس حرب فيتنام، لأن الإمبراطوريّات لا تقبل الفشل خياراً). يقول المفتش إن الاحتلال الأميركي فشل في معرفة حقيقة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة للشعب الأفغاني وأنه كان «يتحرّك في الظلام» (قيل نفس الشيء عن الاحتلال الأميركي في فيتنام). يقول التقرير: «لقد فرضت الحكومة الأميركيّة بطريقة خرقاء نماذج تكنوقراطيّة غربيّة على المؤسّسات الاقتصادية الأفغانيّة»، ويضيف أنها درّبت الجيش الأفغاني على أسلحة متطوّرة لم يستطِع أن يفهمها (نحن شعوب متخلّفة لا نفهم مثل الإسرائيليّين أنواع السلاح). وانتقد التقرير الاحتلال لأنه فرض نظام قانون رسمي في بلاد تعوّدت حلّ 80 إلى 90 في المئة من مشاكلها من خلال وسائل غير رسميّة (التنميط الاستشراقي مرّة أخرى). ويضيف التقرير الاستشراقي أن الاحتلال لم يفهم العقوبات الاجتماعية والثقافية التي أعاقت تحرير البنات والنساء. أي أن التقرير يبرّئ الاحتلال من جرائمه ويتّهمه فقط بالإفراط في النوايا الحسنة وأنه أصرّ على حكم القانون وعلى تحرير النساء فيما كان الشعب المتخلّف مرتاحاً في تخلّفه. المفتّش العام لم يلحَظ مثلاً أن قصف الأعراس والتجمّعات المدنيّة واقتحام المنازل في الليل والتعذيب والقتل الذي رافق السجن الذي أنشأه جيش الاحتلال في قاعدة بغرام كانت عوامل أمدّت طالبان بالمزيد من التأييد. مثل فيتنام، لا يستطيع المفتش العام الأميركي لوم المحتل إلّا بتحميله المسؤوليّة عن نيّاته الحسنة نحو الشعب المُحتلّ. يعترف التقرير بأن الاحتلال الأميركي لم يملك من المعلومات ما يحتاجه كي يجعل من الاحتلال أمراً ساراً في حياة الشعب الأفغاني. لو أن أميركا فهمت الشعب المُحتلّ، لأدركت أنه كان عليها الإحجام عن مبادراتها في إسعاد الشعب الأفغاني. يعترف التقرير بالفساد لكنّه يلوم متقاعدين محليّين، كأن هؤلاء لم يكونوا أطرافاً في جسم الاحتلال نفسه.
ستصدر تقارير كثيرة عن أجهزة الدفاع والمخابرات الأميركيّة لدراسة أسباب الفشل الأميركي. هذا لم يكن مفاجئاً. الذي فاجأ القيادة العسكرية والاستخباراتيّة أن بايدن أقدم على خطة لم يجرؤ أوباما ولا ترامب على أخذها، أي إصدار القرار بالانسحاب. والذي أزعج الأميركيّين أكثر من غيرهم أن مشاهد الانسحاب لم تكن بعيدة تماماً عن مشاهد الانسحاب الأميركي من فيتنام. والإعلام هنا مُحبّ للحرب ومؤجّج لها. والإعلام اللبناني المحلّي، خصوصاً صحافة الثاو الثاو ودعاة حقوق الإنسان في بلادنا انزعجوا من الشماتة التي صدرت عن عرب نحو الهزيمة الأميركيّة. هؤلاء يقبلون بالتشفّي فقط في حالات اغتيال لمسؤولين إيرانيّين أو مقاومين من قبل إسرائيل. عندها فقط يجوز التشفي والشماتة. الانسحاب الأميركي كان مُذلّاً وذكّرنا بمشاهد انسحاب جيش لحد. وهل كان الجيش الأفغاني إلا نسقاً من جيش لحد؟ الاحتلال ينشئ جيشاً رديفاً ويحتمي به ليخفّف من إصاباته. كان يقتل نحو 20 في المئة من الجيش الأفغاني الذي كان يطيع الأوامر التي تصدر عن الآمر والناهي الأميركي. لكن ـــــ بعكس حركة طالبان ـــــ لم تكن لهذا الجيش قضيّة يؤمن بها. الاحتلال لا يمكن أن يكون قضيّة للُمحتلّين، خصوصاً إذا لم يكونوا من كبار المستفيدين. لكن انهيار الجيش الأفغاني كان شديد الإحراج للحكومة الأميركيّة. هذه حكومة تصرّ على تدريب كل الجيوش العربيّة (حتى الجزائر الأبيّة باتت تسمح بمدرّبين عسكريّين أميركيّين). من سيثق بالتدريب العسكري الأميركي؟ أميركا أنفقت مئات الملايين على الجيش العراقي والجيش الأفغاني، والاثنان انهارا بسرعة رهيبة. الأول أمام «داعش» (قبل أن تنقذه ميليشيات «الحشد» ــ مع أن البروباغندا الأميركيّة والعربيّة الخليجيّة ترفض منح «الحشد» أي فضل له، وفي جدال بيني وبين مراسلة «نيويورك تايمز» في المنطقة أصرّت على أن الجيش العراقي الذي انهار أمام «داعش» هو الذي هزم «داعش») والثاني أمام طالبان. ونحن في لبنان اأام مثال للعبرة: كل هذا التهليل والدعاية حول الجيش اللبناني: من يصدّقه بعد؟ الحكومة الأميركيّة درّبت وسلّحت وأغدقت في إنفاقها على جيش تعداده 300 ألف في أفغانستان، وهو انهار في ساعات. وهي في لبنان تصرّ على أن الجيش الهزيل (بالإعداد والتسليح والتجهيز) الذي تدرّبه (والذي لم نرَ من نجاحاته غير القبض على شوالات بطاطا مهرّبة وأكياس مساحيق الغسيل «برسيل») هو في كامل الجهوزيّة للدفاع عن لبنان. من سيصدّق هذا الكلام؟ إن تصديق الوصف الأميركي لقدرات وأهليّة الجيش اللبناني هو خيانة وطنيّة صفيقة. الجيش اللبناني عاجز عن فكّ حاجز للقوات في المعاملتين، وأميركا تريدنا أن نصدّق أنه قادر على حماية لبنان من أخطار خارجيّة (مسرحيّة معركة الجرود كانت ترتيباً أميركياً مستعجلاً لحرمان الذين طردوا النصرة و«داعش» من الجرود من الرصيد الذي استحقّوه، لأنهم هم الذين طردوهم قبل إطلاق بضع قذائف من مدفعية الجيش لإيهام الشعب اللبناني أن الجيش هو المُنقذ)؟
حلفاء أميركا في ورطة. مرة أخرى، تتخلّى أميركا ـــــ في نظرهم ـــــ عن أدوات لها، مثل الطغاة العرب. هذا يؤشر إلى استحالة تدخّل عسكري أميركي على نطاق واسع كما في أفغانستان والعراق. أميركا لن تغادر بلادنا لكنها ستقصفها وتقتلنا عن بعد، وهي ستستعين بجيوش محلّيّة (تعمل على تدريبها) للقيام بالمهام الموكولة إليها. لكن هذا الانكفاء الأميركي سيزيد من أواصر التحالف بين دول الخليج وبين دولة العدوّ الإسرائيلي. وأميركا ستسمح لهم بحريّة حركة أكبر: وما التدخل الإماراتي المتزايد في ليبيا واليمن ولبنان ومصر وتونس والعراق إلا مثال عن ذلك (النظام الإماراتي ساهم أيضاً في الدعم العسكري للاحتلال الأميركي في أفغانستان). الإشراف العسكري على تدريب جيوش نظام الطغاة سيزداد، بعد أن كان «الموساد» يشرف على تدريب المخابرات المغربية والإماراتيّة والسعوديّة في السنوات الأخيرة (في حالة المغرب منذ الستينيّات). الذين واللواتي يستنجدون بالقوات الأميركيّة لتخليصهم من حزب الله في لبنان يحلمون. هؤلاء لم يستوعبوا بعد الفشل الأميركي في العراق وأفغانستان ــ وحتى في لبنان حين كانت القوى المناهضة للاحتلال الأميركي أضعف بألف مرّة مما هي عليه اليوم.
عاملان اثنان سيتجاذبان خيارات السياسة الخارجيّة الأميركيّة بعد إذلال أفغانستان: خيار يريد الانتقام وبسرعة لتحقيق نصر سريع للاستفاقة من هزيمة شنعاء، وخيار يرفض أيّ تفكير بتدخل عسكري كبير، وذلك لتجنّب ما لحق المصالح الأميركيّة (الداخلية والخارجيّة) من أذى. لكن هذه إمبراطوريّة مغرورة وللإمبراطوريّات طموحات ورغبات تتخطّى المنطق والعقل. لكن تجربة أفغانستان ستكبّل الجموح الاستعماري الأميركي لبضع سنوات ـــــ على الأقل.