استقطاب حادّ له موجباته.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

استقطاب حادّ له موجباته.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢ أغسطس ٢٠٢١

ما انفكت الأزمة السورية تشهد منذ حلول موعد الاستحقاق الرئاسي الجاري يوم 26 أيار المنصرم وما تلاه تراسيم مجتمعية وكذا شعبية ذات طيف واسع، كانت شديدة الوضوح لجهة ميل شرائح واسعة فيها نحو الاستقرار الذي إن قرر السوريون وجوب قيامه واقعا فلسوف تتقلص، وصولا إلى تلاشي قدرة الخارج على ممارسة فعل صب الزيت فوق النار، الأمر الذي يشكل التصعيد الحاصل قبل أسابيع في جنوب البلاد، الطبعة الأحدث منه راهناً، بعدما كانت المنطقة قد عاشت مرحلة هدوء نسبي أشبه بالتام لمدة تقارب السنوات الثلاث في أعقاب مصالحة العام 2018، مع فارق مهم، لا بد من لفت النظر إليه هنا، وهو يكمن في اختلاف التموضع الأردني من خلال الأزمة الراهنة عنه في الأزمة الناشبة ربيع عام 2011، التي ذهبت فيها عمان إلى حدود احتضان غرفة عمليات «الموك» التي كانت مهمتها الأبرز هي محاولة «إسقاط دمشق»، فقد سجل الأسبوعان الماضيان تحولاً أردنياً لافتاً، إن لم يكن مفاجئاً بدرجة غير عادية، فعشية سفر ملك الأردن عبد اللـه الثاني إلى واشنطن التي وصلها في 19 تموز المنصرم، كانت صحيفة «واشنطن بوست» قد أجرت لقاء مطولاً معه، وفي ذلك اللقاء قال الملك: إن الرئيس بشار «الأسد باق في حكم سورية لأمد طويل»، وفي خلال زيارته، كما نقلت وكالات، كان قد دعا الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء لقائه به لـ«الانضمام لفريق روسيا والأردن (ودول إقليمية أخرى) بهدف الاتفاق على خريطة طريق للحل في سورية بما يضمن استقلالها ووحدتها»، هذا التحول يفقد الحراك الحالي في درعا جذوته، كما يفقده «حمالة الحطب» القادرة على مد النار بما يلزمها كلما خبا توهجها، والجدير ذكره في هذا السياق هو أن الأردن كان قد لعب، منذ وصول الملك حسين الراحل إلى السلطة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، دور «قرن استشعار» يستخدمه الغرب لتلمس وجهة الرياح القادمة في المنطقة، وفي مراحل لاحقة كان هذا الأخير غالباً ما «يستأنس» بوجهة النظر الصادرة عن عمان، التي كان يسمها على الدوام بأنها الأكثر «واقعية» مما يصدر عن باقي عواصم المنطقة.
لا يمكن فصل «العبور» الروسي والإيراني الحاصل مؤخراً نحو دمشق، الذي شهد محطتين مهمتين كانتا ذات دلالات تتخذ طابع استقطاب حاد، عن حدث ذهبت فيه واشنطن نحو فرض عقوبات جديدة على دمشق، بعدما أبدت هذي الأخيرة ميلاً في غضون الأشهر الماضية نحو التخفيف من العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق عليها، في مؤشر دال على وجود افتراقات لا تزال وازنة بين موسكو وواشنطن اللتين تجريان قبل وقت غير قصير جولات من الحوار بشأن الأزمة السورية، كان قد أرسى لها مشروع القرار الروسي الأميركي الذي حظي بإجماع يوم 9 تموز المنصرم أتاح صدور القرار 2585، ففي 26 تموز الماضي حط وفد روسي رفيع في دمشق لحضور المؤتمر الدولي لعودة اللاجئين، وفي اليوم التالي لهذا اليوم الأخير حط وفد إيراني رفيع المستوى أيضاً فيها، والزيارتان، من حيث الوقائع والنتائج اللتان خلصتا إليها، مؤشر أكيد على أن موسكو وطهران، مجتمعتان حينا وكل على حدة حيناً آخر، قد قررتا الرمي بثقلهما الاقتصادي جنباً إلى جنب رميهما بالثقل السياسي الذي لم يفارق سني الأزمة العشر على الإطلاق، حيث الرمي بالثقل الاقتصادي هنا يهدف إلى إفقاد واشنطن ورقة رابحة تضعها في مواجهة المحاور الروسي، والتي تتمثل بالضغوط الاقتصادية التي يمكن لها، إذا ما طال أمدها، أن تؤدي إلى تحولات حاسمة في البنى المجتمعية والثقافية للنسيج السوري، من النوع الضاغط على غرف صناعة القرار لذلك النسيج.
تمتلئ ساحات التحليل والإعلام في هذه الآونة بشتى صنوف القراءات التي تشير إلى تنافر روسي سوري تجاه الحماوة التي اتخذتها الأحداث الحاصلة في درعا قبل أسابيع، وهي، أي تلك التحليلات، تحاول تدعيم وجهة نظرها السابقة الذكر عبر سرديات مختلفة، لربما الأبرز منها ما تورده بعض المقالات التي تنشرها صحف روسية توصف بأنها مقربة من الكرملين، وكذا كتابها الذين يقومون، وفقاً لتلك التحليلات، بقول ما لا يمكن أن تقوله الأقنية الدبلوماسية الروسية، وقصارى القول إن تلك السرديات بكل ما تحمله، لا تعدو أن تكون فعلاً يعادل نزع العدسة المكبرة اللازمة للعين لكي تتمكن الأخيرة من قراءة الكلمات التي اختطت بأحرف بالغة الدقة، وإلا فماذا يعني إعلان موسكو مؤخراً عن تزويد الجيش السوري بمنظومة دفاع جوي حديثة سوف تمكنه من ردع استهداف تل أبيب للعمق السوري المتكرر منذ سنوات؟ ثم ماذا يعني قيام الوفد الروسي بزيارته الأخيرة لدمشق التي أرسلت رسائل عدة في شتى الاتجاهات؟ لا تهتموا كثيراً لما يقال، والقول كثير، عن وجود تباعدات كبرى في ما بين التصورات والرؤى الروسية ونظيرتها السورية، على الرغم من أن هذي الأخيرة موجودة فعلاً، وتلك حالة طبيعية قياساً لعوامل عدة، بل لا تهتموا لما يستخدمه هؤلاء، راهنا، من تصريحات روسية، وهي صحيحة، لتأكيد حالة التباعد السابقة الذكر، من نوع تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أدلى به في كانون الثاني من عام 2017 عندما قال: «لولا موسكو لسقطت دمشق»، فالقول لا يكون صحيحاً تماماً إلا إذا كانت له تتمة مفادها أن سقوط الأخيرة سيعني سقوط الأولى بالضرورة، وتلك حقيقة كانت القيادة الروسية سباقة في فهمها، فإستراتيجية الأمن القومي الروسي التي وضعتها الإمبراطورة «كاترين الثانية»، التي تمثل ولا شك أهم الحكام الروس في العصر الحديث، لم يستطع كل الحكام الذين جاؤوا بعدها، بمن فيهم حكام المرحلة السوفيتية، الخروج عنها، وكانت كاترين تقول إن: «دمشق تمتلك مفاتيح البيت الروسي»، وإن «الأمن القومي الروسي يبدأ عند حدود دمشق»، مثل هذا قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً منذ بدايات الأزمة عندما أشار، في إحدى مقابلاته، إلى أن «الأزمة السورية مفتاح لدخول عصر جديد»، هذا هو عمق الصورة الذي يراد لنا أن نبتعد عنه لكي ننشد إلى أطرافها التي لا تعطي أكثر من إيحاءات يمكن للتوقف عندها، بقدر أكبر مما تستحق، أن يؤدي إلى قلب اللوحة رأساً على عقب.