بوتين- بايدن.. نصف قمة، نصف نجاح.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

بوتين- بايدن.. نصف قمة، نصف نجاح.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢١ يونيو ٢٠٢١

للمكان رمزية مغرقة تذكر بالعديد من القمم، كتلك التي احتضنها يوم الأربعاء الماضي، والسابق منها كان قد أرسى لتحولات عميقة حدثت بفعل نضج ظروفها الموضوعية، وبفعل آخر لا يقل أهمية هو إحساس طرفيها بخطورة التباعد الذي يمكن له، فيما لو حدث، أن يؤدي إلى اضطرام النار في شتى مناطق التماس، ولربما استحداث مناطق أخرى إذا ما استدعت الضرورة ذلك، بل لربما يؤدي المزيد من هذا كله إلى تهديد الحياة على هذه المعمورة التي تعيش حضارة قلقة ومضطربة محكومة بالكثير من الصراعات التي تضعها على حافة تصبح فيها أقرب لأن تكون في جفن الردى.
أضحت جنيف منذ أن اعتمدت بلادها خيار الحياد العسكري في معاهدة باريس 1815، واعتراف الدول الأوروبية بذلك الحياد في مؤتمر فيينا أيار من هذا العام الأخير، مركزاً نشطاً لحل النزاعات العالمية، وللقاءات بين قادة كان من الصعب لقاؤهم على أراضي البلدان التي يحكمونها لاعتبارات عدة، وما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي أفرزت نظاماً عالمياً ثنائي القطبية، شهدت قمتان بين قطبي تلك الثنائية، وكلاهما كان نقطة تحول كبرى في مسارات الصراع العالمية، أولاهما الحاصلة في العام 1955 بين الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف ونظيره الأميركي دوايت أيزنهاور، والمؤكد هو أن تلك القمة كانت أشبه بـ«قرار تنفيذي» يحدد آليات التطبيق لـ«مراسيم» يالطا 1945 التي حددت اقتسام مناطق النفوذ العالمية، وثانيهما حصلت في العام 1985 بين ميخائيل غورباتشوف ورونالد ريغان، وهي من حيث النتيجة قادت، بفعل التنازلات المفروضة على الأول، إلى انفراجة عالمية، لم تلبث أن تكشفت آثارها بسقوط حلف وارسو 1989 الذي مثل من الناحية العملية انتهاء عصر الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العالمية.
في الشكل تبدو القمة الروسية الأميركية الأخيرة حلقة متتمة لتينك القمتين، ولربما جرى السعي من طرفيها، ومن المضيف أيضا، إلى توليد إحساس يشي بذلك، فقد اختير القصر عينه الذي شهد انعقاد مؤتمر العام 1864 الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية جنيف الأولى، التي شكلت حجر الأساس للقانون الدولي المعروف اليوم، ناهيك عن رمزية المكان آنفة الذكر، لكن أنى للمعطيات والوقائع، ومعهما ميزان القوى القائم، أن تعطي للقمة الأخيرة صفة المتممة لسابقاتها أياً تكن المحاولات، وأياً يكن الجهد المبذول لإظهارها بتلك الصورة، فالأولى، أي المعطيات والوقائع، تبدو صارخة لجهة القول بأن نسخة العام 2021 تختلف جذرياً عن النسختين السابقتين.
كانت المناخات التي استولدها وصول الرئيس جو بايدن للسلطة في واشنطن شهر كانون الثاني الماضي تشي كلها بتوتر العلاقة مع موسكو، فالرجل خاض حملته الانتخابية ومن بين شعاراته مواجهة موسكو وبكين، ولربما يصح توصيف «البايدينية» هنا بأنها مدرسة جديدة على السياسة الأميركية، فالرؤساء الأميركيون منذ العام 1971 كانوا قد انتهجوا سياسة محاولة اجتذاب أحدهما، أي موسكو أو بكين، لمواجهة الأخرى، في حين ذهب بايدن لمواجهة كليهما، وفي السياق كان قد قال في مقابلة تلفزيونية جرت شهر آذار الماضي إنه يعتقد أن الرئيس الروسي «قاتل»، بل توعده بدفع أثمان ذلك التوصيف، وقبيل يوم واحد من لقائه بهذا الأخير كان بايدن قد أكد لحلفائه في حلف الناتو أن «القمة لن تكون فرصة لإضفاء شرعية على سلوك موسكو العدواني وتجاوزاتها»، فكيف إذاً وكل الملفات المدرجة على جدول الأعمال تتخذ شكل «الأفخاخ» التي يمكن، لأي واحد منها على انفراد، أن يفضي إلى تقزيم النتائج المرتجاة من الحدث، كانت المناخات وكذا الملفات توحي بأن المجتمعين أرادوا فقط الوقوف وجهاً لوجه، الأمر الذي يمكن لمفاعيله أن تفضي إلى وقف التدهور نحو منزلقات أعمق، وفعل القطيعة غالباً ما يعزز، وفي الأمر ما يدعو إليه، فقدان الثقة الحاصل، ناهيك عن أن اللقاء غالباً ما يكون ذا أثر نفسي له تداعياته على الأفراد، وكذا السياسات التي يمكن أن ينتهجوها، من دون أن يعني ذلك أن هذه الأخيرة تمثل انعكاساً أساسياً للفعل الأول.
وفق البيان المشترك الذي صدر في أعقاب القمة، ووفق المؤتمرين الصحفيين المنفصلين اللذين عقدهما الرئيسان الأميركي والروسي، ومن ثم التصريحات الصادرة عن مسؤولي البلدين، فإن توافقاً جرى على التنسيق في مجال الأمن السيبراني، وكذا بخصوص الاستقرار النووي الإستراتيجي لمنع نشوب حرب نووية، وفيما عدا ذلك كانت هناك افتراقات، أو بمعنى أدق كانت هناك توافقات على تأجيل إعلان الافتراق، فالرئيس الروسي أوحى، في مؤتمره الصحفي، بأن موضوع أوكرانيا وانضمامها لحلف الناتو لم يناقش، والأمر عينه انسحب على مسألة «حقوق الإنسان» في روسيا، وقضية المعارض اليكسي نافالني التي قال بوتين إنه رفض النقاش فيهما أيضاً.
في المسألة السورية، كان من الواضح قبيل انعقاد القمة أن موسكو تريد تثقيل الملف السوري لجعله حاضراً فيها بقوة، وما رشح عن ذلك الفعل كان قليلاً، فقد أكد مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية أثناء موجز صحفي نشرته وزارة الخارجية الأميركية أن الرئيسين ناقشا الملف السوري، وأضاف إن «اختباراً سيأتي بعد نحو شهر في الأمم المتحدة» في إشارة إلى التصويت المرتقب على تمديد القرار 2533 يوم 11 تموز المقبل، ورداً على سؤال فيما إذا كان بايدن قد حصل على تعهد من بوتين بهذا الخصوص أجاب «لم تكن هناك أي التزامات».
وفق هذه المؤشرات التي أراد الطرفان إخراجها لتصدير الصورة الحاصلة في الردهات إلى الخارج العام، فإن القمة مثلت «نصف نجاح»، ولربما كانت الطلقة الأخيرة التي احتوتها الجعبة الأميركية، والتي هدفت إلى اصطياد «الدب الروسي»، أو جعله في وضعية «الجريح» الذي سيقبل إملاءات «منقذه»، والإملاء الأكبر هنا هو الموقف من الصين التي باتت تمثل الهاجس الأكبر للولايات المتحدة وعلى كل المستويات، كانت الصين هي الحاضر الأكبر برغم الغياب، ومن الراجح أن الطلقة ابتعدت عن هدفها ولم تسجل «الدريئة» المصوب عليها أي أثر لها.
كنتيجة يمكن القول إن ما تكشّف من نتائج القمة قليل، ولربما سيأتي ذلك التكشف تباعا بعدما تخضع المفردات، وكذا الجمل، المستخدمة في أثناء المفاوضات، للتحليل في دوائر المختصين لدى كل من البلدين، عندها يمكن أن تتضح الصورة أكثر.