«الحيلة» بين المهارة والنصب.. بقلم: حسن مدن

«الحيلة» بين المهارة والنصب.. بقلم: حسن مدن

تحليل وآراء

الجمعة، ١١ يونيو ٢٠٢١

عالم الاجتماع اللبناني الراحل فؤاد خوري رأى في دراسة له، في سلوك بعض التجار اللبنانيين المقيمين في إفريقيا مثالاً على ممارسة الحيلة وسيلة لإقناع المشتري بأن لا غلو في السعر الذي يقترحونه لبضائعهم، بسبل شتى؛ ففي كثير من الحالات يكون الزوج والزوجة هما صاحبا المحل وعاملان فيه أيضاً، وحين يأتيهما زبون طالباً بضاعة ما، ويجد سعر ما يريد مرتفعاً ويجادلهم في أمر تخفيضه، يرد عليه الزوج بأن السعر نهائي، وقد يخفّضه، تحت إلحاح الزبون قليلاً، بما لا يحقق رغبته، ويردّ الزوج بحزم: هذا آخر سعر.
وحين يهمّ الزبون بمغادرة المحل محبطاً، تتدخل الزوجة، هذه المرة، طالبة منه العودة ومقترحة تخفيضاً مرضياً له، فيتظاهر الزوج بالغضب، ويفتعل معها «معركة» كلامية باللغة العربية، التي لا يفهمها الزبون الإفريقي، لتظهر في عين الزبون أنها تساهلت كثيراً في أمر السعر، فيما الأمر ليس كذلك، والزوجان متواطئان في الأمر، ما يقنع المشتري أن ما اقترحته الزوجة من سعر مناسب له، بدليل أن ذلك أثار حفيظة الزوج.
وقديماً قال ابن خلدون «إن التجارة مهنة تقوم على المداهنة والمماحكة والغشّ والخلابة وممارسة الخصومات واللجاج وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً»، وأذكر أن زميلة دراسة من شرقي ألمانيا، يوم كانت ألمانيا مقسمة إلى قسمين شرقي وغربي، ذكرت أنها زارت مرة سوريا، وقصدت سوق الحميدية، وكان بين أكثر ما أعجبها في السوق هو «المفاصلة» على سعر البضاعة، هي القادمة من بلد الأسعار فيه محددة وثابتة، لا سبيل لتغييرها، وما رأته في «الحميدية» كان مثار دهشتها.
هذه تداعيات خطرت في البال من وحي ما قرأته في كتاب للباحث التونسي الهادي التمومي، قسّم فيها الخصال، أو السمات كما أطلق هو عليها، إلى سمحاء ومحرجة، وأدخل ما هو في حكم الحيلة في الثانية، وهو أيضاً استشهد بمهنة التجارة، التي تحمل بعض العاملين فيها على امتلاك مهارة الحيلة.
لكن موضوعه الأساس لم يكن عن هذا، وإنما عن قدرة بعض البشر في الانتقال من الموقف إلى نقيضه، أو بتعبيره: «المرور بلا أدنى حرج من خُلق المروءة إلى النقيض»، أكان ذلك في الممارسة الاجتماعية اليومية أو في السياسة، ولأنه يبحث في أوضاع تونس السياسية، فقد تحدث عن مهارة البعض في ممارسة ما يدعى في دارجة البلدان المغاربية «قلب الفيتسة»، أي جعل باطن الجاكيت الذي يلبسه المرء ظاهرهُ، فهو لا يخلعه ويقطع معه بارتداء جديد، وإنما الاكتفاء بقلبه لإيهام من هم حوله بأنه غيّره.