هل يخرج «الدخان الأبيض» من مسقط؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

هل يخرج «الدخان الأبيض» من مسقط؟.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٩ مارس ٢٠٢١

كثيرة هي نقاط التلاقي التي تجمع بين الدبلوماسيتين السورية والعمانية، فكلتاهما تنأى بنفسها عن ممارسة فعل الضجيج وإطلاق التصريحات النارية التي يزول أثرها عادة بزوال المؤثر المرئي الذي تبرزه الكاميرات التي غالباً ما تراكم في الذهن مضاعفات ذات أثر تضخيمي لإعطائه دوراً مضاعفاً لما تحتمله الوقائع فيكون وقعه لحظياً، وكلتاهما أيضاً تدرك المسافة الفاصلة، أو التي تجمع بين المتاح والممكن وبين الصعب والمستحيل.
وبذا فقد أثبتتا نفسيهما كمدرستين عريقتين اكتسبتا ثقة الآخرين عبر انتهاج طريقة في التعاطي، كانت في حالات عدة تفرض إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع مختلف الأطراف المتناقضة التي كثيراً ما يكون هناك تضاد في سياساتها أو تضارب في مصالحها تجاه أزمة ما من الأزمات، وإن كانت هذه الميزة قد افتقدتها دمشق بعيد أزمتها الأخيرة لاعتبارات معروفة، حيث من المؤكد أن ذلك النهج يجعل من صاحبه مالكاً لـ«ميكانيزم» تتيح لمحركاته متابعة الحركة في أعتى الظروف وأشدها قساوة، والاثنان، أي الحركة والقدرة على متابعتها، كثيراً ما توصل إلى تقصير مسافة السير عبر سلوك طرقات مختصرة للوصول إلى الهدف.
يسجل للدبلوماسية العمانية ميزة أخرى إبان سلوكها للتكتيك السابق الذكر تتمثل في تغليبها لأولوية البحث في نقاط التلاقي أولاً مع تأجيل البحث في نقاط الافتراق، ما يمكن تشبيه عملها هنا بالطريقة التي يستخدم فيها «الإزميل» في التنقيب عن الآثار الشديدة الحساسية، حيث الطرق هنا يجب أن يكون ناعماً وهادئاً، خشية تعرضها للكسر أو التهشيم.
مارست الدبلوماسية العُمانية على امتداد العقود الماضية أدواراً سياسية فاعلة بعيدة عن الصخب ومحاولات «التكسب» الآني الذي يعطيه عادة ضجيج الفضائيات التي يرمي القائمون بها جني أرباح ترتد على دواخلهم فتزيد من نقاطهم التي تقوّي من مواقعهم في السلطة، وهي ابتنت مواقفها انطلاقاً من إدراك فائق الدقة بحساسية الجغرافيا التي يحتّمها موقع من أشد المواقع حساسية في المنطقة ولربما في العالم أجمع، ناهيك عن وقوعه، أي وقوع ذاك الموقع، في خضم صراع مصالح كبرى تتخذ في أحايين عدة تلوّنات مذهبية شديدة الخطورة وهي تشكل مكامن للتفجير لا تنضب، ووسط كل ذاك كانت مسقط قادرة في كثير من الحالات على لعب دور «كاسحة الألغام» التي تهيئ الظروف للولوج خطوات إلى الأمام.
من بين تلك الأدوار التي يعتبر أبرزها على الإطلاق، هو ذلك الدور الذي لعبته مسقط عندما استقبلت على ملاعبها «الأدوار التمهيدية» على امتداد ما يزيد على عامين قبيل أن تستقبل فيينا «مباراة الكأس» بين إيران ومجموعة 5+1، كان دور مسقط محورياً في الاتفاق الذي سيعرف باسم العاصمة النمساوية التي شهدت التوقيع عليه، في الوقت الذي لم يحظ دور العاصمة العمانية الذي لعبته بالكثير من الأضواء، وهي لم تسع أصلاً للحصول على المزيد منها، ولربما كان ذلك هو السر الذي جعلها عنصر جذب للاعبين ومصدر ثقة لإقامة «الأدوار التمهيدية» لأي بطولة راهنة أو لاحقة، ولربما كان من الراجح، وفق ما تشير إليه معطيات عديدة، أن تكون الأرض العُمانية اليوم ملعباً لمفاوضات تهدف إلى إنهاء حرب اليمن، والعجلة النشطة تبدو وكأنها تمضي أيضاً إلى جر المتسابقين الإيراني والأميركي إلى ميادين السباق القائمة على أراضيها التي اختبرها كلا المتسابقين جيداً، هذا إن لم يكن هذان الأخيران يجريان هذه الأيام تمارين إحماء قبيل الدخول إلى حلبات السبق.
منذ اندلاع الأزمة السورية في ربيع العام 2011 كانت سلطنة عمان العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي الذي لم يتخذ أي إجراء دبلوماسي ضد سورية، وهذا دلالة على أمرين، أولاهما اختلاف النظرة في تقييم ما يجري على الأرض، وثانيهما استقلالية القرار الذي لم يدفع بمسقط للانخراط في مخططات كانت تدرك ولا شك أن نيرانها، إذا ما اتسعت، فلسوف تحرق أصابع من أشعلوها، وفي مطلع تشرين أول الماضي استقبل الوزير الراحل وليد المعلم أوراق اعتماد سفير عُمان في دمشق تركي محمد البوسعيدي، ما يعني أن عمان كانت أول دولة خليجية تعيد سفيرها إلى دمشق منذ أواخر العام 2011 الذي شهد تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية بسيناريو وإخراج قطريين، والدور الذي كانت عُمان تهيئ نفسها له بعد هذا الحدث الأخير هو لعب دور أكبر لمساعدة سورية في إعادة اندماجها داخل المجموعة العربية وإعادة بناء بناها التحتية من جديد.
من الناحية السياسية، تتميز عُمان بعلاقات جيدة مع معظم اللاعبين الفاعلين في الأزمة السورية بدءاً من روسيا وإيران على ضفة، ووصولاً إلى الإمارات والسعودية على ضفة أخرى، ثم الولايات المتحدة التي تدرك مسقط وجوب الموازنة بعناية هنا بين جهودها الرامية لدعم دمشق وبين الإبقاء على علاقاتها المتميزة مع واشنطن الأمر الذي يحتم سلوكاً، لا يدركه الخطأ، يقتضي السير في طرقات مليئة بالألغام، والأمر نفسه ينطبق على علاقاتها مع إيران حيث لا يمكن فصل الدعم العماني لدمشق عن سياق العلاقة مع طهران، واللعب الدقيق بين كل هذه التناقضات يمنح الدور العماني ميزة تجعل منه قوة توازن مهمة في الشرق الأوسط.
في جولة وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد كانت هناك محطات ثلاث هي موسكو وطهران ومسقط، ولربما كانت هذه الأخيرة هي المحطة الأهم في تلك الجولة التي كان اختيارها الموفق مؤشراً على تلمس متغيرات دولية عدة واستعداداً عُمانياً للإمساك بأطراف الخيوط المتشابكة وصولاً لحل العقدة المستعصية، وما جرى فيها يبتعد كثيراً عما تناولته التصريحات التي أطلقها الطرفان والتي لم تتعد حدود الدبلوماسية في تركيزها على تعزيز العلاقات الثنائية والتشاور في القضايا الإقليمية، والثابت أن ثمة إصراراً جرى التوافق عليه على إحداث اختراقات في الجدران العالية التسليح التي باتت تحيط بالتسوية السياسية للأزمة السورية، وهو فعل يبدو انعطافياً في مسار هذه الأخيرة، والمهم هو أن مسقط قادرة على القيام به انطلاقاً من توافر الهمة والمصداقية عند العُمانيين، وكذا انطلاقاً من الخبرة المشهودة لهؤلاء في طرق الأبواب الموصدة بطريقة لا تزعج الساكنين.
نرجح هنا أن نشهد زيارات متبادلة عدة على طريق مسقط دمشق، بل ونرجح أيضاً أن مسقط الصامتة قد ولجت، بعيداً عن الضجيج، في ترميم القنوات التي أصابها الصدأ بفعل سنوات الحرب العشر تمهيداً للإعلان عن وضعها قيد الخدمة من جديد، المسار صعب ومع ذلك لا يبدو أن نتائجه مستحيلة، ولربما ستثبت الأسابيع المقبلة أن دمشق قد اختارت «الإزميل» الأنجع لإحداث الثغرة التي سيخرج منها «الدخان الأبيض».