سورية والجامعة.. والعودة المرتقبة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

سورية والجامعة.. والعودة المرتقبة.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الاثنين، ٨ مارس ٢٠٢١

كان يراد لحدث مفصلي من نوع تعليق عضوية سورية في الجامعة العربية الذي جرى أواخر العام 2011 أن يكون نهاية لمسار وليس بداية له، فانزياح مركز الثقل العربي باتجاه دول الخليج كانت قد لاحت تباشيره منذ سقوط بغداد على يد الأميركيين نيسان من العام 2003، إلا أن اكتمال الفعل، أي حط مركز الثقل العربي لرحاله في الخليج، لم يكن قد أصبح بعد حلماً مكتمل المشروعية إلا بعد هبوب رياح «الربيع العربي» أواخر العام 2010، والتي بلغت جذوتها مطلع ومنتصف العام 2011، حيث سيصل «الكل»، ولربما باستحضار عاملي الجغرافيا والتاريخ، بعد «المشاهد» المستحصلة في تونس ومصر وليبيا إلى نتيجة مؤداها أن الفوز بجائزة السعفة الذهبية في ذلك المهرجان سيكون فقط بعد تصوير المشهد الأخير في دمشق، الأمر الذي يمكن أن يفسر التناحر الناشئ بين المتنافسين حتى داخل البيت الخليجي نفسه برغم «النجاح» الحاصل في الدول سابقة الذكر، والذي خرج إلى العلن في محطات عديدة وبطريقة كانت بعيدة عن أعراف السياسة وتقاليد الدبلوماسية، حيث سيسجل، ذلك التناحر، في سياقاته إحدى أكبر مهازل التاريخ العربي التي مر بها على مر مراحله، عندما شهدنا الثقل العربي وقد قرر أن يحط رحاله في الدوحة ما بين مطلع العام 2012 ومنتصف العام 2013، والفعل سيظل محطة لها العديد من المدلولات لأنها ببساطة كانت رسماً للسياسة من خارج عوامل التاريخ وكذا خارج حقائق الجغرافيا.
كان فعل حمل قطر لـ«الراية» الذي بلغ ذروته بدعوة الأخيرة لـ«الائتلاف السوري» ليشغل مقعد سورية في القمة العربية المنعقدة بالدوحة في العام 2013، أبلغ تعبير عن حال الوهن الذي بات وسماً لا يفارق هذا الواقع العربي، والذي لطالما جهدت السياسات الخليجية، ولربما يصح هنا استثناء الكويت من تلك القاعدة، في الإمعان بتوجيه الطعنة تلو الطعنة له، وفي الذروة منها لرمزه الذي تمثله الجامعة العربية، والتي شكلت على الأقل، إطارا عاماً يحقق الحدود الدنيا من التلاقيات التي من شأنها أن تبقي الثقل العربي رقماً في المعادلات الإقليمية، وفي مرات عدة كان ذلك الإطار قد نجح في أن يلعب دور السد بوجه حدوث المزيد من الانهيارات عندما يكون محور القاهرة دمشق الرياض، أو بغداد كبديل للأخيرة أحياناً، بحالة نشطة، إلا أن السياسات الخليجية كانت تنظر إلى فعل من نوع حدوث تلك الانهيارات، بل وفي حدوث المزيد منها، مصلحة عليا لها كما يبدو، فالتأسيس لحال الانقسام الذي فرضته المواقف من القضية الفلسطينية، خصوصاً ما بعد «مبادرة السلام العربية» التي أقرتها قمة بيروت 2002 كان قد اعتمد كحجر رحى للفعل، حيث الهدف الذي كشفته المعطيات فيما بعد كان أبعد ما يكون عن البنود التي تضمنتها تلك المبادرة، بعد أن كانت قضية فلسطين محل إجماع عربي على امتداد عقود، نقول ذلك الأساس كان قد ضاعف الآمال بإمكان حدوث تفسخات كبرى في البنيان العربي الذي كان يراد أخذه نحو خيارات غير تلك التي كان يسير إليها، من نوع «زرع» عدو آخر منافس للعدو الإسرائيلي هو إيران، وبالرغم من أن هواجس الخليج الأمنية تجاه هذي الأخيرة كان يمكن أخذها بعين الاعتبار، بل واتخاذ موقف عربي، مرفق بتوافقات، مهدئ لتلك المواقف، إلا أن عواصم الخليج كانت قد اتخذت القرار الذي يجب أن يعمم على كامل العرب بأن تصبح إيران هي عدوهم الأول، والقرار هنا مبني فقط على رؤيا هي أقرب إلى «شق القلب» الإيراني ومعرفة دواخله «العدوانية»، فإيران لليوم لا تحتل أراض عربية، في حين أن إسرائيل تحتل كامل أرض فلسطين وأجزاء من سورية ولبنان ولا تخفي نياتها باحتلال المزيد.
منذ أن سقط حمل «الراية» من يدي قطر صيف العام 2013، لا ينفك الحديث عن عودة سورية مرتقبة لاحتلال موقعها الطبيعي في محيطها العربي، والأمر كان قد اكتسب جدية أكبر منذ الافتراقات الحاصلة ما بين الرياض وأنقرة أواخر العام 2015 والتي جاء بعض منها كنتيجة للتدخل العسكري الروسي بداية الخريف من هذا العام الأخير، إلا أن دوافعه، أي دوافع الحديث عن عودة سورية، كانت في عمقها نتيجة طبيعية لصمود مؤسسات الدولة السورية وعلى رأسها مؤسسة الجيش التي خالفت كل توقعات الغرب، وإلى صمود هذي الأخيرة تعود بالتأكيد مجمل التوازنات التي سادت المنطقة على امتداد السنوات العشر الماضية، حتى تلك المعادلات التي لم تتغير فإن رعاتها ظهروا في طور مراجعة حساباتهم، بمعنى أنهم كانوا في وضعية المتحفز للانتقال من وضع إلى آخر، وما نسمعه من تحليلات، أو حتى نشر وثائق من هنا وهناك، تعزو ذلك الصمود للتدخل الروسي فحسب، إلا محاولة جديدة، بعد تعثر المحاولات القديمة لتشويه «إلياذة» الصمود السوري الأسطورية، وتلك الوثائق، كما تسمى، تسيء للروس، لربما، بالدرجة نفسها التي تسيء بها للسوريين، فدولة عظمى كروسيا بالتأكيد ما كان لها أن تتدخل فيما لو وجدت أن «الحصان السوري» قد «كبا» وأن الرهان عليه هو رهان خاسر، دون وجوب أن يفهم هذا الكلام على أنه تقليل من الدور الذي قامت به، ولا تزال، روسيا في سورية منذ بدء الأزمة العام 2011، أي قبل أربع سنوات من تدخلها العسكري خريف العام 2015.
لكن تكاثفت المساعي والحديث لعودة سورية مرتقبة كان قد برز بشكل متنامٍ منذ شباط من العام الماضي، أي بالتزامن مع قرب انعقاد القمة العربية التي كانت مقررة في الجزائر في آذار من العام الماضي، وهي القمة التي جرى تأجيلها ثم إلغاؤها، وفي ظل تلك التجاذبات الحاصلة آنذاك سيعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لقناة «روسيا اليوم» أن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية أمر ضروري لأنها «من مؤسسيها ولأنها دولة وفية لمبادئها»، بل إن وزارة الخارجية الجزائرية كانت قد أعلنت بعد أيام من هذا الحديث بأن قمة عربية ستعقد على أراضيها لن تكون من دون سورية، وفي كانون الأول الماضي قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد لقاء جمعه في موسكو مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان «إن المملكة السعودية وروسيا تجمع بينهما عدة نقاط بما يخص سورية أبرزها هو ضرورة عودتها للجامعة العربية».
لم تفلح السياقات السابقة في وضع العربة على مسارها الصحيح، بالرغم من وجود قناعة راسخة، لدى القائمين بالفعل، بأن الرهانات السابقة كلها سقطت، وعدم النجاح فيها كلها كان مرده بدرجة قاطعة لقرار أميركي يقضي بوجوب مراوحة العربة على ذلك المسار، لكن من الجائز الآن إلباس الدعوة التي أطلقها وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في أعقاب لقائه مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي نايف الحجرف يوم 22 من شباط الماضي، والتي أشار فيها إلى ضرورة عودة سورية للجامعة العربية، نقول من الجائز إلباس تلك الدعوة للبوس آخر، نظراً لأنها تقتنص لحظة فارقة هي الأكثر مناسبة من كل سابقاتها انطلاقاً من معطيات عديدة، أبرزها المنبر الذي قيلت من عليه، وهو يبدو الآن مقتنعاً أكثر بذلك الفعل تحسباً لرياح «بايدنية» ستهب على الخليج، فيما تباشيرها تقول إنها أقرب إلى رياح الخماسين القاسية التي يعرفها الخليج جيداً، ثم إن العنجهية التي تمارسها تركيا على الأراضي السورية، وكذا العراقية، باتت من الحدة التي تحتم على الآخرين إعادة الحسابات التي لا تستوي هنا كلها من دون «أنفاس» دمشق التي غابت قسراً على مدى ما يقرب من عقد، ولعلّ هذه الاستنتاجات تتوافق مع التصريح الأخير لوزير الخارجية المصري سامح شكري، الأربعاء الماضي، بأن «عودة سورية إلى الحاضنة العربية أمر حيوي من أجل صيانة الأمن القومي العربي».