من التنافس إلى الصدام بين القوى العظمى.. بقلم: وليد شرارة

من التنافس إلى الصدام بين القوى العظمى.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

السبت، ٦ فبراير ٢٠٢١

بعدما بات «التنافس بين القوى العظمى» السمة الرئيسيّة للوضع الدولي الراهن، بحسب التقارير الصادرة عن «البنتاغون»، وأبرزها وثيقتا الأمن القومي والدفاع الوطني في 2018، ليس من المستغرب أن يصبح الصدام المباشر بين هذه القوى فرضية مركزية للعسكرية الأميركية والغربية. فالتنافس على النفوذ بين أطراف مهيمنة تتراجع قدراتها، وأخرى صاعدة وطموحة، هو الذي قاد في حالات كثيرة، في التاريخ المعاصر والقديم، إلى صدامات وحروب دامية في ما بينها. رأى البعض أن امتلاك القوى العظمى للسلاح النووي يلغي احتمال المواجهة المباشرة بينها بسبب خطر الإفناء المتبادل الناجم عن استخدامه، غير أن دراسات وأبحاثاً لعسكريين وخبراء أميركيين في الآونة الأخيرة لم تعُد تستبعد مثل هذه المواجهة، وهي تُقدّم توصيات لكيفية الاستعداد لها. وعلى الرغم من أن تضخيم المخاطر الخارجية هو بين الأساليب المعروفة التي يلجأ إليها المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، أي التحالف العضوي بين المؤسسة العسكرية الأميركية وكارتيلات السلاح، ليضمن حصة ضخمة من الميزانية العامة للدولة، فإن الخيارات التي قد تعتمدها إدارة بايدن نتيجة لها ستكون لها تداعيات على خيارات «المنافسين الدوليين» بلا ريب. ومن الواضح أن المواقف الحادّة التي أطلقها أقطاب هذه الإدارة حيال روسيا والصين، وفي مقدّمتهم الرئيس نفسه ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، تنسجم بدرجة كبيرة مع توجّهات «الدولة العميقة»، وفي قلبها المؤسسة العسكرية، المعادية بشدّة لهذين البلدين. الالتفات إلى مثل هذه الدراسات، وإلى تأثيرها المحتمل على خيارات إدارة بايدن في ميدان التسلّح وعلى أشكال «هجينة» من الانتشار العسكري الخارجي، يسهم في توضيح استراتيجية تلك الإدارة العامة الفعلية ومفاعيلها على صراع دولي مرشّح للتصاعد.
المواجهة النووية المحتملة
كثيراً ما يُفسَّر العداء المتجذّر في المؤسسة العسكرية الأميركية لروسيا، وذلك المتزايد للصين، على أنه من مخلّفات «عقلية الحرب الباردة»، أي أنه موروث من مرحلة تاريخية طغى فيها البعد الأيديولوجي في الصراعات الدولية على الأبعاد الأخرى. والواقع هو أن هذا البعد الأيديولوجي، أي مناهضة الشيوعية، لم يكن سوى الخطاب التبريري لسعي الولايات المتحدة للهيمنة وإضعاف و/أو تدمير جميع القوى الدولتية وغير الدولتية المعارضة لها، بما فيها قوة بحجم الاتحاد السوفياتي. سردية مختلفة حَلّت اليوم في مكان مناهضة الشيوعية، وهي تلك التي تصف «المنافسين» بالقوى «التحريفية» العاملة على تدمير النظام الدولي الليبرالي الذي شَيّدته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. الأميرال في الجيش الأميركي، تشارلز ريتشارد، رأى في مقال على موقع معهد البحرية الأميركية بعنوان «بناء الردع الاستراتيجي في القرن الـ 21»، أن استخدام أدوات القوة من قِبَل روسيا والصين لـ»تحدّي الأعراف الدولية والسلم العالمي أضحى يفوق ما شهدناه في أوج الحرب الباردة». وأضاف أن عدم تصدّي الولايات المتحدة لسلوك الدولتين سيحرمها من ميزتها المركزية، وهي القدرة على إظهار القوة الاستراتيجية واستخدامها لتوسيع النفوذ، وسيقنع الدولتين بإمكانية المضيّ في غيّهما. أعدّ ريتشارد لائحة اتهامية طويلة بحقهما. فروسيا شرعت في عملية تحديث كاملة لبنيتها العسكرية، تشمل ترسانتها النووية والصاروخية وقاذفاتها الاستراتيجية. والأمر نفسه ينطبق على الصين، التي أنجزت تقدّماً هائلاً في مجال الصواريخ الفائقة السرعة والأسلحة النووية وتلك الخاصة بحرب الفضاء، وطَوّرت نوعياً قدراتها العسكرية البحرية. ولا يتردّد البلدان، وفقاً لريتشارد، في تعمّد الاحتكاك مع سفن وطائرات الولايات المتحدة وحلفائها في جوارهما المباشر، كبحر الصين الجنوبي أو المحيط الهادئ.
الخلاصة الأساسية التي يصل إليها هي أن «الفرضية الرئيسية للقيادة العسكرية الأميركية، وهي أن قدرة الردع الأميركية ستبقى قائمة خلال الأزمات والصراعات المقبلة، ستتعرّض لامتحان عسير وغير مسبوق. لسوء الحظ، فإن أعداءنا استثمروا بكثافة في الميادين النووية والاستراتيجية للحدّ من قدرتنا على التدخل والتأثير، ولاختبار متانة تحالفاتنا، وللمبادرة إلى استخدام أسلحة نووية في حالة اضطرارهم لذلك. هناك إمكانية فعلية لكي تتدحرج أزمة إقليمية مع روسيا أو الصين بسرعة نحو مواجهة يتمّ خلالها اللجوء إلى أسلحة نووية، في حال اعتقاد قادة البلدين بأن خسائرهم في حرب تقليدية قد تُهدّد نظامَيهما». التوصية الأولى التي يُقدّمها الأميرال الأميركي هي ضرورة استبدال فرضية أن «استخدام السلاح النووي غير ممكن» بأخرى مفادها أن «اللجوء إليه ممكن جدّاً». التوصية الثانية هي العمل على الاحتفاظ بتفوّق نسبي على الأعداء في إطار التنافس معهم. التوصية الثالثة هي الحرص على أن تكون القدرات المتاحة متناسبة مع الاستراتيجية العامة وما يترتّب عليها من التزامات عالمية. ومن نافل القول إن القيادتين السياسية والعسكرية الصينية والروسية مطّلعتان على مثل هذه الدراسات والتوصيات، وإنهما ستتابعان بدقة مدى أخذها بعين الاعتبار في خطط التطوير العسكرية الأميركية، مع ما يعنيه ذلك من تعاظم لسباق التسلّح وتصاعد للتوتر بين «المتنافسين».
 
الانتشار العسكري «الهجين»
استندت السياسة الإمبراطورية الأميركية إلى شبكة قواعد عسكرية عبر العالم (حوالى 600 قاعدة عسكرية كبرى)، لم تمتلك ما يوازيها أيّ قوة إمبراطورية أخرى في التاريخ المعاصر، وأشكال أخرى من الوجود العسكري في عشرات البلدان بناءً على اتفاقيات تمنحها تسهيلات أو باسم التعاون و/أو الحماية. القسم الأكبر من هذه القواعد شُيّد خلال الحرب الباردة، أمّا الأنماط الأخرى من الانتشار العسكري فقد تزايدت في خضمّ ما سُمّي «الحرب على الإرهاب»، وجزء كبير منها غير معلن. لكن النموّ الكبير في القدرات العسكرية والصاروخية، وتحديداً تلك الدقيقة والمُوجَّهة، للقوى الكبرى والمتوسّطة «المنافسة» للولايات المتحدة، بات يُمثّل تهديداً جدّياً للقواعد التقليدية. وبما أن غاية المنافسين هي إبعاد الوجود العسكري الأميركي قدر المستطاع عن جوارهم المباشر البرّي أو البحري، أي بكلام أوضح توسيع مجالهم الحيوي الدفاعي، فإن المؤسسة العسكرية الأميركية ومراكز الدراسات المرتبطة بها تعمل على بلورة خطط ومشاريع لإعادة صياغة الانتشار العسكري العالمي ليتلاءم مع الوقائع المستجدّة. وقد نشر الباحثان، رينانا مايلز جوي من «معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا»، وبريان بلانكينشيب أستاذ العلوم السياسية في جامعة ميامي، على موقع «وور أون ذي روكس»، مقالاً مُخصَّصاً لما سَمّياه «مستقبل الانتشار العسكري الأميركي في عالم متنازَع عليه». يرى الخبيران أن أعداء الولايات المتحدة يستخدمون، إضافة إلى التهديد العسكري المباشر للقواعد الأميركية، أدوات كالضغوط الاقتصادية والسياسية على الدول التي «تستضيفها» لدفعها إلى إغلاقها أو لمنع استخدامها ضدّهم في حال نشوب نزاع بينهم وبين الولايات المتحدة. تمتلك الصين مثلاً، بحكم علاقاتها الاقتصادية الوازنة مع عدد كبير من دول جوارها القريب والبعيد، قدرة على ممارسة ضغط وازن على تلك الدول لحملها على عدم الاندراج في المخططات الأميركية ضدّها.
الحقيقة الأخرى هي أن وجود قواعد أميركية ــــ تُستخدم لغايات عدوانية ــــ على أراضي الكثير من البلدان الآسيوية وحتى الأوروبية، جوبه بمعارضة عارمة في الماضي في أوساط شعوب تلك البلدان، ومن المرجّح أن تتصاعد مثل هذه المعارضة إذا ارتفعت حدّة التوتر بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الأخرى لما يستتبعه ذلك من مخاطر على أمن وحياة سكّانها. ينصح الخبيران بتخفيض عدد القواعد التقليدية، مع تعزيز نوعي لقدراتها الدفاعية في مواجهة التهديدات الصاروخية أساساً، وبزيادة أشكال الانتشار العسكري «الهجين» وغير العلني في الكثير من الحالات، وتوسيع رقعته عبر تقديم محفّزات اقتصادية وعسكرية وسياسية «سخية» للدول المستعدّة للقبول به.
الاستعداد لمواجهات نووية، وإعادة تنظيم الانتشار العسكري العالمي وتوسيع رقعته، يندرجان ضمن الخيارات التي تدرسها المؤسّسة العسكرية الأميركية للاحتفاظ بموقع بلادها المهيمن مهما كانت الأثمان. تَبنّيها لهذه الخيارات سيفضي بالضرورة إلى تأجيج التوترات والنزاعات، وإلى امتدادها إلى ساحات ومناطق جديدة، وسيفتح الباب أمام سيناريوات لحروب لم يشهدها العالم في تاريخه المعاصر.