قبل ظهور ترامب الثاني.. بقلم: عاصم عبدالخالق

قبل ظهور ترامب الثاني.. بقلم: عاصم عبدالخالق

تحليل وآراء

الاثنين، ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٠

لفترة طويلة من الزمن سيظل الباحثون الأمريكيون يحاولون تفسير وفهم ظاهرة صعود دونالد ترامب أو ما بات يعرف باسم «الترامبية»، كإشارة تختزل حالة المد الشعبوي الهادر التي جسدها وعبر عنها الرئيس الأمريكي. سيرحل ترامب الرئيس، لكن الحالة الترامبية ستبقى لأنها لم تكن لحظة عابرة في الحياة السياسية الأمريكية، أو جملة اعتراضية يمكن تجاوزها في التاريخ السياسي للبلاد.
تحتاج هذه الظاهرة إلى تفسير بالفعل، لاسيما أن ترامب صعد وحقق شعبية في زمن وجيز منذ ظهوره فجأة على المسرح السياسي قبل أربع سنوات تقريباً. وفاز في انتخابات 2016 بلا خبرة مسبقة، وهو إنجاز لم يسبقه إليه أي سياسي.
الأكثر غرابة في ظاهرة ترامب ليس فقط هذا الصعود الصاروخي، ولكن أيضاً تركيبته الشخصية بكل صفاته، أو بمعنى أدق عيوبه، التي تكفي تماماً للقضاء على أي سياسي منذ البداية. جميع مؤهلات الفشل تجسدت في هذا الرجل. ورصد خصومه العشرات منها، ليس أقلها قلة الخبرة في السياسة، وافتقاد الرؤية، والنرجسية، والغرور، والسلطوية، والاندفاع، وأشياء كثيرة وكافية لتدميره، ومع ذلك نجح وصمد. ولولا «كورونا» لكان هو الفائز في الانتخابات الأخيرة.
مع ذلك، فإن ترامب ليس حالة شاذة في التاريخ السياسي في أمريكا أو غيرها. وكزعيم شعبوي يميني قومي يركز خطابه السياسي دائماً على دغدغة مشاعر الجماهير ومخاطبة عواطفها وليس عقولها. ويعزف بمهارة على وتر آلامها وأوجاعها، ويلقي التهم جزافاً على مؤسسات الدولة والنخب السياسية والإعلام ولا يستثني أحداً. وبطبيعة الحال لا يتردد في تسويق أنصاف الحقائق بما يخدم أهدافه دون أدنى اهتمام بافتضاح أمره، فالجماهير الغاضبة أو الخائفة أو المحبطة تتغاضى عن الحقائق ولا تتوقف عند كل كلمة لتدقيقها.
فعل ترامب هذا بنجاح؛ كان ممثلاً قديراً ورجل أعمال ماهراً. ولا يهم كثيراً إن كان سياسياً نزيهاً أم لا. ألم يقل تشرشل إن الرجل لا يمكن أن يكون سياسياً ونزيهاً في آن واحد!
ولكي نفهم ظاهرة ترامب ونضعها في سياقها التاريخي، لا بد أن نعي حقيقة مهمة هي أن «الترامبية» لها جذور عميقة في التربة السياسية الأمريكية. فهي لم تبدأ بمجيء ترامب ولن تنتهي برحيله. وهذا التعبير الدقيق صاغته مجلة «فورين أفيرز» في عددها الأخير ضمن تحليل رائع للظاهرة قدمت خلاله تفسيراً منطقياً لها. خلاصة ما ذهبت إليه هو أن أمريكا في 2016 كانت مهيأة لموجة شعبوية جديدة، وأنها ما زالت كذلك حتى اليوم. ومن هنا جاء عنوان التحليل قائلاً «ترامب لن يكون آخر الشعبويين».
ظهرت الحركة الشعبوية كقوة سياسية فعالة قبل عقدين على الأقل من وصول ترامب للسلطة. وتعتبر المجلة أن الخلل الفادح في توزيع الثروة ومن ثم الظلم وانعدام المساواة هو السبب الرئيسي للظاهرة. وطوال العقود الأربعة الأخيرة ظلت الفجوة تتسع بين أصحاب الأعمال والعاملين، وبين الحاصلين على مؤهلات عليا والأقل تعليماً. ولأكثر من أربعين عاماً تجمد تقريباً متوسط أجور هذه الفئة الأخيرة، بل هبط دخلها مقارنة بما كان عليه في السبعينات.
كل هذا فاقم حالة الغضب والإحباط لدى قطاعات واسعة من الشعب، فقدت ثقتها في مؤسسات الدولة التي عجزت عن حل مشاكلها وتخفيف معاناتها. وكانت تلك هي اللحظة التاريخية المناسبة تماماً لظهور رجل مثل ترامب عبر بكلمات مباشرة عن كل ما تشعر به الجماهير، وصب لعناته على الجميع إرضاء لها، وكسباً لودّها حتى ولو لم يقدم لها بدائل وحلولاً واقعية.
لا يجب إلقاء اللوم على ترامب وحده؛ فهو ليس مسؤولاً عن حالة الاحتقان المجتمعي، كل ما فعل أنه استثمرها لصالحه. وما دامت هذه الحالة مستمرة دون علاج فسيعود ترامب في 2024 فإن لم يكن موجوداً فلا مفر من ظهور ترامب آخر.