ترامب على مسرح التاريخ العالميّ: لم يَئِن موعد الخروج بعد!.. بقلم: سعيد محمد

ترامب على مسرح التاريخ العالميّ: لم يَئِن موعد الخروج بعد!.. بقلم: سعيد محمد

تحليل وآراء

الجمعة، ٦ نوفمبر ٢٠٢٠

لم يكن دونالد ترامب، في أيّ لحظة منذ عام 2016، مجرّد رئيس أميركي آخر. لقد كان رمزاً وتعبيراً عن مخاض سياسي في لحظة تاريخية محدّدة من تاريخ الغرب. ولذا، مهما كانت نتيجة محاولته تمديد فترة رئاسته أربع سنوات أخرى، فمن المستبعد أن يخرج «ترامب - الظاهرة» من المشهد السياسي والاجتماعي الأميركي في أيّ وقت قريباً، وسيظلّ «ترامب - الفكرة» قوّة عاتية تقود أحد طرفَي الاستقطاب البرجوازي في الدولة العظمى، وكابوساً لدى الحلفاء والأعداء في الخارج
تتّجه المؤشرات المتوالية من الولايات المتحدة الأميركية إلى أن الرئيس الحالي، دونالد ترامب، ومرشّح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، سيخسر منصبه لمصلحة منافسه جو بايدن، مرشّح الحزب الديمقراطي، لتكون هذه أول هزيمة في معركة التجديد لرئيس أميركي حالي منذ 28 عاماً. ومع ذلك، فإن ترامب وجمهوره لا يزالان يقاتلان بضراوة نادرة في كلّ الدوائر الانتخابية القليلة غير المحسومة، ويقضيان بقية الوقت في التشكيك ورفع الدعاوى لدى المحاكم في شأن مزاعم تزوير في دوائر حُسمت بفروقات ضئيلة.
لكن، وعلى عكس الانطباعات بإمكان تسبّب هذا الصراع في إطلاق شرارة حرب أهلية أو اضطرابات واسعة، فإن ترامب، الذي خَبِر دواخل الدولة الأميركية العميقة خلال السنوات الأربع المنصرمة، يعلم أكثر من غيره أن المركز الإمبراطوري لا يزال شديد التماسك، وأنه لن يسمح لأيٍّ كان - من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما - في أخذ الدولة الأعظم إلى فوضى حقيقية. ولذا فهو سيكون مرناً بما فيه الكفاية لتقبّل الخسارة، على أن يسجّل، على الأقلّ أمام جمهوره - وهذه نقطة مهمّة - أن السّلطة سُرقت منه نتيجة مؤامرة وغش وتزوير تقاطعت الأطراف الليبرالية وقوى خفيّة على تنفيذها ضدّه.
وهنا، مسألة جمهوره هذه ينبغي التدقيق فيها قليلاً، فهو حصل إلى الآن على ما يقرب من أصوات 70 مليون أميركي، أي حوالى ستة ملايين صوت زيادة مما حصل عليه في عام 2016، وانتخبه 95% بالمئة من الجمهوريين و35% من الهسيبانيك و12% من السود وما مجموعه 48% من مجموع الناخبين على الأقلّ، ما يعني أنه احتفظ بدعم نصف الجمهور الأميركي على الرغم من أربع سنوات من ثرثرات اليسار الليبرالي عن فضائح ونكسات ومحاولات للعزل، وتحالف المتضرّرين منه - الليبراليون والأقلّيات الملوّنة ودعاة العولمة والأكاديميون -، ولم يؤثر في شعبيّته فشله الفضائحي في إدارة وباء «كوفيد - 19» الذي أودى بحياة ربع مليون أميركي إلى الآن ويتفشّى بسرعة، 100 ألف حالة في اليوم الواحد.
وهكذا، إذا كان سيتعيّن على ترامب إخلاء البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/ يناير المقبل، فهو سيكمل في ما تبقّى له من أيام في منصبه استخدام سلطته لتكريس صورة الشهيد ضحية المؤامرة في أذهان هذا الجمهور، وربّما الانتقام من بعض خصومه من كبار المسؤولين الحكوميين الذين قاموا - لأسباب متفاوتة - بتنفيذ رغباته، سواء بتشويه سمعتهم أو حتى فصلهم من أعمالهم، دافعاً بحالة الاستقطاب إلى أقصاها. وهذا كلّه سيعطي ترامب - أقلّه على المستوى الداخلي الأميركي - قاعدة قوة شعبية ضخمة غير مسبوقة للعب دور فاعل في السياسة الأميركية لم يلعبه الرؤساء الآخرون المهزومون لولاية واحدة من قبله. وهذا يعني إمكان عودته مظفّراً إلى البيت الأبيض في عام 2024 بعد أربع سنوات من التآكل في عهدة إدارة ديمقراطية مفتقدة للرؤية أو البرنامج الواقعي أو حتى وحدة المكوّنات، على الرغم من أنه سيكون بلغ الـ78 من العمر بحلول ذلك الوقت. وحتى لو انتهت أيامه كمرشّح رئاسي، فإن جمهوره، وقاعدة متابعيه على «تويتر» - 90 مليون شخص -، يمنحانه كلّ الشرعية ليكون صوتاً ناقداً مؤثراً عند كلّ منعطف ضدّ الديمقراطيين الممسكين بزمام السلطة، ولا سيّما في ظلّ حالة التعادل السلبي التي انتهت إليها انتخابات الكونغرس الأميركي - الموازية للرئاسية - بمجلسَيه: الشيوخ والنواب، كما تؤهله للعب دور صانع الملوك بين الجمهوريين، وفرض رؤيته على توجّهات حزبهم، وربما إعادة تكوينه كليّة وفق تصوراته.
وفي الحقيقة، فإن «ترامب - الشخص»، بخسارته الدراماتيكية وبخروجه الاستعراضي من السلطة الآن وتمريره كرة النار الملتهبة إلى الباهت بايدن، ربّما يكون ينقذ «ترامب - الظاهرة» من حال التأزّم المستعصية التي يعيشها النظام الفيدرالي الأميركي بوصفه قلب المنظومة الرأسمالية العالمية، وسيترك إدارة أربع سنوات من لملمة الكوارث التي تراكمت في عهده لآخرين سيقرّعهم دون هوادة بينما يستردّ أنفاسه لجولة جديدة مستفيداً من شبكة العلاقات الكثيفة التي بناها في كلّ مفاصل النظام الأميركي، ومع (بعض) الحلفاء في الخارج، الذين سيكونون دائماً متوجّسين من عودته في وقت قريب، أو بالطبع عودة مرشّح جمهوري جديد على قياسه. وهو أمر غير مسبوق في تاريخ السياسة الأميركية المعاصرة، إذ إن كلّ الرؤساء الآخرين الذين طُردوا بعد فترة ولاية واحدة (أو أقلّ)، مثل (جيرالد) فورد في عام 1976 و(جيمي) كارتر في عام 1980، و(جورج) بوش في عام 1992، تلاشوا سريعاً من المشهد السياسي، ولم تزد قيمتهم العملية بعد مغادرة السلطة عن رموز فولكلورية تستدَعى في المناسبات الوطنية، والتقاط الصور مع تلاميذ المدارس، وافتتاح مكتبات تذكارية تضمّ مراسلاتهم أيّام السلطة التي كانوها.
لكن الأهمّ من ذلك كلّه، أن «ترامب - الفكرة» كان منذ اقتحامه المشهد العالمي زعيماً للولايات المتحدة في عام 2016، عرضاً متورّماً - كما يصفه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو - للأزمة التي تعيشها الرأسمالية على رغم انتصارها شبه النهائي، ليس في الولايات المتحدة حصراً، وإنما عبر البحار أيضاً، وفشلاً مجسّداً للديمقراطية - الغربية بمجملها - كواجهة لهيمنة النخب على الدول، وعجلاً ذهبيّاً يعشقه عتاة اليمين الفاشستي - الذي توارى لبعض الوقت لكنه عاد بقوة إلى الشارع مع صعود النيوليبرالية في عقد الثمانينيّات وتعاظم بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 -، ويعبده خشيةً وورعاً خصومُه. وبما أن مجموع الظروف الموضوعية في هذه اللحظة القلقة من تاريخ العالم، والتي سمحت من حيث المبدأ، وفي ظلّ الاستقطاب الحادّ والحرب الطبقية - المعلَنة من طرف واحد -، لرجل مثل «ترامب - الشخص» الآتي من خارج المنظومة السياسية أصلاً، بالصعود الصاروخي إلى موقع رجل العالم القوي، هذه الظروف لم
تتغيّر، بل تعملقت وتجذّرت في الحاضر ولن تتفكّك في وقت قريب، فلا شيء يوحي بغياب سريع له. لا شكّ إذاً في أن اللحظة «الترامبية» ما زالت مستمرّة ومتوهّجة، وحتماً ستزيدها التهاباً العودة المؤقتة للليبراليين، الذين بدل دفن ليبراليتهم بعد أن تعفّنت جثّتها واستغلال العهد «الترامبي» لبلورة صيغة بديلة لإنقاذ الرأسمالية من نفسها، قضوا الوقت في نزاع يائس لاسترداد السلطة، لمجرّد استرداد السلطة.
ترامب - الشخص، والظاهرة الأميركية، والفكرة المعولمة، «ثلاثتهم» دخل مسرح التاريخ العالمي، ولم يحن موعد خروجه بعد، سواء خسر الرجل الانتخابات الحالية أو ربحها. وهذا هو الخبر الوحيد المفجع بحقّ في كلّ همروجة الانتخابات الأميركية.