غادة وعشّاقها.. بقلم: موسى برهومة

غادة وعشّاقها.. بقلم: موسى برهومة

تحليل وآراء

السبت، ١٧ أكتوبر ٢٠٢٠

ما زالت الأديبة السورية غادة السمّان تحنّ إلى صورتها الأولى، يومَ كانت ميّادة الجمال والفتنة، وكاتبة شابة متحرّرة، تُشعل الحرائق في القلوب، وتختار الفرائس بدهاء أنثى جمعت المجد من طرفيه: الجمال والموهبة.
وأعترف أنني واحد من الذين فتنوا وما زالوا بكتابة غادة السمّان، فنثرها الصافي الرقيق المعتّق بنبيذ الشعر أضفى مزيجاً من السحر على كتابتها، وهنا لا أميل إلى تصنيف الكتابة الأنثوية أو الذكرية، فالكتابة في نهاية المطاف (وهذا استطراد) إبداع لا يعبأ بالجنسوية أو التصنيف الجندري.
ومن شدة ولعي بكتابات السمّان أنني كنت أحرص على شراء مجلة «الحوادث» فقط لأقرأ مقالتها الأسبوعية في الصفحة الأخيرة. وأحياناً لم أكن أملك ثمن المجلة، فأستسمح ورّاق عمّان حسن أبوعلي، صاحب كشك الكتب الأشهر في وسط عمّان، لأقرأ المجلة واقفاً وأعيدها إلى مكانها!
لكنّ غادة السمّان لم تكتفِ بحيازة مجدين مجتمعين رافقاها عقوداً من الزمان، كانت خلالها نجمة أدبية تتسابق عليها صحف بيروت والعالم العربي، ولم تكتف برواياتها وأشعارها وتصريحاتها التحررية التي أشعلت الثورات الساكنة في نفوس نساء كثيرات، بل ذهبت إلى صناعة صورة، أو نفض الغبار، بتعبير أدق، عن صورة العاشقة التي يهيم في حبها الكثيرون، لاسيما نجوم ذلك الزمان، فخرجت علينا بالرسائل التي مات أصحابها، وما زال سراج السمّان (مواليد 1942) مليئاً بالزيت، وموحياً بالمفاجآت، على ما يبدو.
بدأت الرسائل بالكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ثم تلاه الشاعر اللبناني أنسي الحاج. وقد كتبتُ قبل أربع سنوات عن هذا الأمر، وتوقعت أن يحمل الزمان لنا رسائل أخرى عن راحلين ذابوا هياماً في عشق صاحبة «السباحة في بحيرة الشيطان»، وترددتْ أسماء كالشاعر الفلسطيني كمال ناصر. وممن راسل غادة، أيضاً، الصحافي الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي، وزعم بعضهم أنّ ثمة رسائل بين السمّان ونزار قباني.
بيْد أنّ أنباءً سرت أخيراً عن عزم السمّان نشر رسائل للموسيقار المصري بليغ حمدي الذي بلغ حبّه لغادة حداً جعله يطير إلى بيروت من القاهرة للقاء السمّان في ليلة زفافه على المطربة وردة الجزائرية. وتردّد أنّ «الحب» بين السمّان وحمدي الذي اقترب من التكلّل بالزواج، كما أعلنت الكاتبة، تزامن مع فترة «الحب» الجامح الذي نشأ بينها وبين الحاج، وكذلك كنفاني الذي وصفته بأنه «كان أحبَّ الرجال إلى قلبي كامرأة، کيلا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم»!
الرسائل إلى غادة السمّان تأججت خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، وكانت غادة آنذاك عشرينية، وصفعها كنفاني في رسائله إليها بأنها «صبيّة وفاتنة وموهوبة». وتذكر الوقائع أنّ الحاج أحبها في عام 1963 وكنفاني في عامي 1966 و1967. وروى أصدقاء بليغ حمدي أنهم تلقوا رسائل من غادة إلى الموسيقار المصري في عام 1967، ما يقود إلى احتمال، ربما لا يزعج غادة ذاتها، بأنها كانت تجمع عدداً من العشاق «الضحايا» في فترة واحدة، وهنا لستُ معنياً بالمحاكمة الأخلاقية لهذا السلوك، بمقدار ما أحاول أن أتبيّن صدق التجربة من طرف السمّان التي جعلت رمزاً نضالياً كغسان كنفاني يكتب لها في غمرة احتراقه: «تستطيعين بسهولة أن تدرجي اسمي في قائمة التافهين، وتدوسي عليه وأنت تصعدين إلى ما تريدين.. ولكنني أقبل.. إنني أقبل حتى هذه النهاية التعيسة!».
أما المتولّه أنسي الحاج فكتب إليها، وفي السياق ذاته: «صدري امتلأ بالدخان. أشعر بحاجة لا توصف، لا يصدقها العقل، إليكِ. إنك تُخيّلين على أفكاري وتلتهمينني. هل أكمل يا غادة؟ هل أكمل محاولة وصف ما بي؟ أم أنك لا تبالين؟ أم أنك ستقولين لي إنك معتادة على هذا الهذيان؟».
الرسائل، في جملتها، تكشف الوجه الآخر الجميل للشخص (كنفاني والحاج، وربما لبليغ حمدي الذي كان يكتب بالموسيقى والجنون)، لكنها لا تقول لنا إن كان كنفاني والحاج، على وجه الخصوص، يرغبان في كشف هذا الوجه، أو كانا يعشقان أن يختبئا وراء الأقنعة، وهذا حقهما بلا أدنى ريب. ولو أرادا أن يُفصحا عن لواعجهما، كما فعلت السمّان عنوة، ومن طرف واحد، لأشهرا ذلك على الملأ؛ لاسيما وأنهما كاتبان مبدعان ومحترفان ولامعان في حقليهما، ولا يعوزهما أي سبب، سوى مانع الانكشاف والتهتّك الذي مضت فيه السمّان (عبر نشر الرسائل) إلى أقاصيه البعيدة.