أنبع وزنبع ونطاط الحيط.. بقلم: هلا سليمان دقوري

أنبع وزنبع ونطاط الحيط.. بقلم: هلا سليمان دقوري

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٤ يونيو ٢٠٢٠

يطالعنا كل يوم دجال أعور أبكم أصم لا يفقه من أي شيء شيئاً، ولكنه يدلف إلى كل مناحي العلم والثقافة مدججاً بثقافة القطيع لينشرها بين الرعاع أمثاله. فتراه يدخل هنا ويقفز هناك مستخدماً مصطلحات غيره يطوعها خدمة لمصالحه الشخصية. قد يظن أشباهه أنه يمارس نوعاً من النقد (والنقد الذاتي أحياناً ليوهم جمهوره أنه موضوعي وحيادي) الذي يطال المجتمع بكافة فئاته (المثقفة غالباً). للوهلة الأولى قد ينجرف المرء العادي (average people) إلى ما يقول ولكن من لديه بعض من اطلاع سيتقيأ مما يقرأ أو يسمع، لأن ذلك ليس إلا مفرزات تم اجترارها مئات بل آلاف المرات ومع الأسف تلاقي رواجاً رغم انحدارها.
وبما أننا نتحدث عن الانحدارات التي نشهدها كل يوم فالأولى أن نتحدث عن الانحدار الأخلاقي والثقافي والمجتمعي الذي نرى نتائجه الآنية الآن. وويلنا وثبورنا من نتائجه الحقيقية التي لا تستطيع أعيننا رؤيتها لعدم قدرتنا على الاستبصار.
فحينما نستقل الحافلة كل يوم أصبح من الطبيعي أن نجد الرجل العجوز أو المرأة العجوز أو أي امرأة أخرى يترنحون مع كل (دعسة فرام) لسائق الحافلة فيما الشباب؛ عماد حياتنا المستقبلية، يفترشون المقاعد ويتسلحون بهواتفهم الذكية التي قد يفوق ذكاؤها ذكاء كل من في الحافلة أجمعين، وتراهم منهمكين في التقليب بين وسائل التواصل الاجتماعي والرد على فلان وإغاظة علّان واستفزاز علاك البان في مهمة هي الأرقى في نظرهم وبسرعة لا تستوجب التأخير أبداً، وكأنهم في تهافت على من يضيع وقته أكثر في سباق التفاهات.
لكن ما الذي يمكن أن يتداوله هؤلاء الناس؟ ما القضايا التي تقض مضجعهم حقاً؟
الفئة الأكثر عدداً في يومنا هذا هي فئة البروليتاريا؛ أي الفئة الكادحة والتي ينتمي إليها معظم الأشخاص اليوم. وحينما نتحدث عنها فإننا نتحدث عن أشخاص بات جلّ همهم تأمين لقمة لأولادهم ليعيشوا حياة أقل شظفاً مما يعيشونه هم وألماً أقل مما يعانونه. يكدحون ليلاً نهاراً من أجل تأمين أقساطهم الجامعية أو نوطاتهم المدرسية أو مصروف جيبهم وتنقلاتهم غير عابئين بأنفسهم. ولكن، حقيقة الأمر، لا تشي بما يمكن أن يسر خاطرهم. فأولادهم يقضون ساعات في المقاصف أو الكافيهات أو في تجمعات على أطراف الحدائق يتشبهون بمن هو أكثر نعمة منهم. يتناولون ما لا يجرؤ والديهم على تناوله لغلاء ثمنه ويحتسون ما لم يذقه والديهم لتفضيلهم شراء حاجيات للأسرة.
اللافت في الأمر، وفي زمننا هذا لا يكترث هؤلاء الأولاد حتى بالتحصيل العلمي الذي لا يزال حقاً في متناولهم. ويسعون جهدهم للقفز والحصول على ما يمكنهم الحصول عليه ببذل أو حتى دون بذل أقل ما يمكن. وكل هذا مترافق، لحسن طالعهم، مع تخفيف الوجبات التعليمية التي تؤدي إلى خلق جيل قزم تحصيله العلمي منكمش، وثقافته ثقافة فيسبوكية عابرة واختزالية، وتفكيره هامشي، ورؤيته غَبِشة، واستبصاره معدوم. لكنه، وفوق كل ذلك، وحالما يتخرج حاملاً تلك الشهادة، يسارع للتباهي بنفسه رافعاً ألقاباً ما كان يحلم بها جدّه الذي مات دون أن يجرؤ على النطق بها رغم أنه كان يستحقها. فترى هذا الجيل يسارع ليقول لك أنا الدكتور أو المهندس أو الإعلامي أو الاستشاري أو المحامي أو حتى الكوتش فلان الفلاني. وإذا كان ممن انتفخت أناه يسارع للظهور على القنوات التلفزيونية لنشر معلوماته الانكماشية الفيسبوكية في غالبها. ويبدأ بممارسة دور الناقد الساخر لهدف جذب الانتباه إليه لأنه حين تقفز القامات في وجهه يشعر بقزميته وتقزّمه. لذلك يسعى لكي يسلق كاتباً بألسنة حداد منتقداً أسلوبه في الكتابة، ويسخر من عالم ومن الألفاظ العلمية التي يبتدعها أو يترجمها عن الكتب أو آخر الأبحاث التي قرأها، ويتناول أستاذاً يحاول نشر فكره بين طلابه بأسلوب لين فيه رفع لسوية الجيل، وهكذا دواليك. وكل ذلك بسخرية لاذعة ونقد قرّاع وألفاظ سوقية تكاد توصلك إلى مرحلة النفور والتقيؤ. يا حبيبي، أن تكون ناقداً لا يعطيك حرية تناول الآخرين وطرائقهم. حرية التعبير لا تعني بأي حال من الأحوال الاجتراء على الآخرين حتى ولو كنت تفوقهم علماً وتفيض حنكة وتغمرهم لطافة وجزلاً.
نحن في عصر نحتاج فيه إلى كل معلومة وكل كلمة تصدر عن كل قامة موجودة بيننا لأنها بعد حين لن تكون موجودة، ووقتها لن يكون ثمة مجال للندم على تضييع علمها بين شطّار الفيسبوك أو تسفيهه بين القبائل السوشال ميدياوية. (ملاحظة: في اللغة العربية كلمة الشاطر تعني قاطع الطريق وليس المفهوم الدارج وهو المثابر والمجتهد). ألّا أحب شخصاً لا يعني إقصاؤه وإقصاء علومه التي حصّلها حينما كان الآخرون يرضعون ثقافة البعير من نهود المسوخ. أن أظهر للآخرين لا يعني بتاتاً أن أصعد على أكتاف العمالقة، بل يعني العمل الدؤوب الصامت لجعل علمي وعملي يتحدثان عني، فليس للمرء مهما كبر أو صغر إلا سمعته التي يقر بها من حوله ومن نهل من علومه وإنجازاته الموثقة. هذا ما سيكون القاعدة أو (الصبّة الباطونية المسلحة) التي ستكون حامل الأجيال المقبلة التي لن تجد ما يرفعها ويبني بلادنا على الشكل الذي نأمله.
مع الأسف، هذا هو الانحدار في عصر الحريات الذي نعيشه اليوم. فحبذا لو ننتبه أكثر إلى ما سنكون عليه. فأخلاقنا الحالية هي ما ستتمسك بها الأجيال القادمة وتجعلها أساساً لها وتصرفاتنا الرعناء ستكون هي السائدة وكل تصرف قويم أخلاقي سيكون كالصبغة المتنحية أو دخيل على المجتمع. لذا، فأخشى ما أخشاه هو أنه بوجود هذا السيل الجارف من اللاأخلاقية والابتعاد عن الصفات الإيثارية المجتمعية وتناول الآخرين بتلك السخريّة والتسلح بثقافة فيسبوكية، سندخل في نفق مظلم يقودنا إلى انكماش عظيم (Big Crunch) قد يلغي وجودنا الفيزيائي في أحد أكثر السيناريوهات قتامة.