طريق المدرسة... طريق القدس.. بقلم: رزان حلبي

طريق المدرسة... طريق القدس.. بقلم: رزان حلبي

تحليل وآراء

الجمعة، ١٥ مايو ٢٠٢٠

هي ليست البداية، لكن من هنا سنبدأ. سنبدأ حيث الذاكرة استوقفتنا، الطفولة التي أبت أن تنتهي تفاصيلها لتتحوّل إلى ذكريات، ذكريات ليست بذكريات بل حاضر ويبدو أنها ستكون المستقبل. سنبدأ من طريق المدرسة العجيب. لم أعتد حياة ذات حلول وسطى، فكانت خيارات والدي دائماً صعبة، ومنها اختيار مكان السكن القريب البعيد. قريبٌ لكونه في محيط القدس، وبعيدٌ لأنه أصبح كذلك في ما بعد، نتيجة ألوان رمادية وُضعت وصعدت فجأة.
كانت حياة طبيعية، ولم أشعر يوماً أنها غير ذلك، لأن عصافير الأقفاص، بعد اعتيادها عليها، لن تتخيّل حياة عصافير السماء. وكما الجنة، لا عين رأت ولا أذن سمعت، حتى لو لم أوافق على هذه الجملة يوماً. ربما الغربة كانت أسوأ أقداري، كانت الحقيقة المرة، كانت الاكتشاف البائس، وربما لحسن حظ ما تبقى لنا من حياة أن نكتشف ذلك حتى ولو متأخرين. لم أعِ يوماً أنّ حياة كتلك، غريبة عن أي حياة نظيرة، فهي لم تكن حياة تقليدية، بل ربع حياة مشوّهة، لنضحى بعدها، ومن عيون منطاد يوم الجمعة الأبيض، الذي يصوّر القدس من أعلى، عالقين بين شطري حياة، شطري واقع، وشطري حقيقة، حقيقة القدس وحقيقة ما وراء القدس.
ذلك الذي يلبس كنزة ذات رقبة (كوروليه) وثلاث كنزات صوفية من بعدها وسترة شتوية من فوقها! يحمل تلك الأقمشة على جسده متنقّلاً بين البيت وخارجه، في زيارة لصديق، لقضاء الحاجة، مقابلة عمل، في البرد والحر صيفاً وخريفاً وشتاءً وربيعاً، في المدرسة والجامعة ثم العمل! هو نحن. تولد كذلك، ليتم إعدادك للموت كذلك أيضاً. فتضحى شيئين، شيئاً ذا مشاعر مقت وضيق، مقابل شيء آخر بارد فاتر من دون أي ردود فعل. شخصية بائسة مركبة متناقضة غير مفهومة، تعتاد ما بين ساعة ونصف إلى ساعتي طريق يومياً للوصول إلى عتبات المدرسة، كما تعتاد الانتظار على نقاط تفتيش مقيتة، وتعتاد أن تجد طريق المدرسة مغلقاً فجأة، لتبدأ رحلة البحث السريع عن طريق التفافي بديل!
كنت أستغرب عدم اكتراث أبي، غير الصبور، بشرطي السير عند إشارة مرور كركشيان، الذي يترك الطريق لأسراب سيارات غربي القدس، وإن لم يصح التعبير، موقِفاً لأجله مساراً ذا إشارة خضراء، مليئاً ببؤساء من الهندي الأحمر. تعلّمنا في الصغر أنّ الكذب رذيلة، فكان وصولي إلى المدرسة بمعدل 3 أيام أسبوعياً متأخرة عن موعد الحصة الأولى، يحتاج إلى تنويع في الأسباب، لكون السبب الحقيقي غير منطقي لتكراره. فقد عشت في بلدة خلف حاجز عسكري دائم، ومدرستي في وسط القدس. تمنيت يوماً لو أن مدرستي داخلية، لكن رُبّ ضارة نافعة، فقد غذّى ذلك خيال أفكاري، عبر مغامرات طريق البيت والمدرسة والعكس. تغيّر طريق مدرستي عشرات المرّات، ليعود فضل رحلات أعرف بلدك إلى من احتل أرضي، ولو يعلم ماذا فعل! فاكتشفت بفضله الوديان والجبال وبعض أنواع الحيوانات كالغزلان البرية والواوي، واستنشقت لأجله، أيضاً، روائح عديدة من طبيعة وأشجار وربيع إلى فضلات إنسان وحيوان، ثم قنابل غاز مسيّل للدموع بتطور أنواعه، حتى نمّى ذلك لدي حاسة الشم التي يشهد لي الكثيرون بها اليوم.
ولعلّ أمرّ الحقائق التي تجاهلناها مطولاً، عن دراية أو غيرها، أنك تولد وتكبر وتترعرع في القدس، ولا ترى القدس، فتنشأ بعيداً عن باقي تفاصيلها وعطورها وزواياها. وكأنّ جداول نهاراتنا تمنهجت بشكل يضع تفاصيل نهارنا في قوالب حقيرة، والتي بدورها تجعل «حرية» الفرد محصورة في مساحات ضيّقة بين البيت والمدرسة أو العمل كحد أقصى. أغار من صديق فرنسي يخبرني عن أماكن زارها في القدس لا أعرفها! كما تضيق نفسي عند معرفتي بصديق آخر طار فوق سماء قدسي، كما عزّ علي استكشاف باقي تفاصيلها بعد 25 عاماً من الدراسة والعمل فيها. فللواقع، نحن نعيش في غيتوات نفسية كل في عالمه، نتنقل في حدود جُدُر وهمية تشكلت نتيجة سياقات اجتماعية وسياسية ننشأ فيها. تنشأ مع تصورات للعالم لا تشبه العالم في شيء، ومع بديهيات إنسانية لا تمت بصلة إلى ما يواجهه الآخر في الخارج، تشوِّه دواخلك كما تعيق تواصلك مع المحيط القريب. تضحى فاتراً بارداً مكبوتاً ذا ردود فعل خجولة تجاه الرجل الأبيض، مقابل قنابل موقوتة مع من تتشابه معهم في الظروف. فالقدس، هي التفاصيل، الزوايا والعطور والهواء والطفولة والذاكرة والحاضر والحنين والأنا، والوطن! هي الحياة الكاملة الناقصة! هي السهل الممتنع!
كنت أتنقل يومياً بين شطري حياة، حياة ملوّنة نسبياً، مقابل حياة رمادية بعد عدة أمتار من عبور أحد الحواجز. بين شطري منطق لا يمُتّان إلى المنطق بصلة ويفصلهما رماد. فالقدس كهالة كاملة، هي النكبة غير المنتهية والمستمرة بالتشويه. نعيش ربع حياة، لنقضي أرباعها الباقية ضائقين ذرعاً بأكوام الملابس التي نحملها على أجسادنا! نكبات منها ما وعيناه وشهدناه ومنها ما لم ندركه لشدة قربه إلينا. فكم نحتاج إلى عيون معلقة في السماء تُرينا الواقع كما يجب أن نراه، وليس كما نعتقد أنفسنا أننا نعرف. تعيش القهر بين مدرك وغير مدرك، وتعيش شبه حياة من دون أن تعيَ شكل الحياة الكاملة، فتعتاد حياة الشبح، تعتاد الرفض والعجرفة والدونية والتجاهل والعنصرية واللاوجود من دون أن تشعر، تعيش على مقاربات بينك وبين أقرانك وراء الجدار، فتكتفي، لأنك وبطبيعة الحال، «أفضل» لا أعلم بماذا! ربما أقل بؤساً أو أكثر، إلى أن تُطالب في نهاية المطاف بتفكير منطقي ذي حلول منطقية!
فهذه القدس، ذات الحركة الدائمة الدؤوبة، ذات الثابت الوحيد والألف عامل متحرك. هي الماضي والحاضر، هي الأم الثكلى، هي الطفل اليتيم، هي أم الموجوع، هي العيد والموت، هي الصحة والمرض، هي الغصة والأمل! هي الحب، هي نحن! ولن يبقى الثابت إلا بتحولنا إلى ثوابت، وبإدراكنا لقضيتنا الثابتة، ووعينا لمصيرنا الحالي والقادم، وبحفاظنا على هُوية جامعة غير مفرّقة! لنُسعف ما تبقى لنا من قدس. فمرة أخرى وتكراراً لعنوان سابق، نحن في القدس بخير، فماذا عنكم أنتم؟
* باحثة من القدس