«لعنة النفط» تصيب الولايات المتحدة.. بقلم: وليد شرارة

«لعنة النفط» تصيب الولايات المتحدة.. بقلم: وليد شرارة

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٢ أبريل ٢٠٢٠

بين الأسباب الوجيهة التي تقدم عادة لتفسير «الشقاء العربي»، أي التدخلات الاستعمارية المستمرة لضرب محاولات الاستقلال والسيطرة على الموارد الوطنية الهادفة إلى إطلاق عملية تنمية حقيقية في بلدان المنطقة العربية والإسلامية، وفي الجنوب عامة، ما اصطلح على تسميته «لعنة النفط». لا يمكن الفصل بين سياسات الحرب والسيطرة الغربية، خاصة الأميركية، على المنطقة وشعوبها وتطلعاتها القومية، وبين امتلاكها مخزوناً هائلاً من هذه السلعة الاستراتيجية، بالنسبة إلى الرأسمالية الامبريالية المعاصرة، وتحولها من «نعمة» إلى «لعنة». رأت الأدبيات السياسية الأميركية السائدة والخطاب الرسمي منذ الخمسينيات الجزء النفطي من العالم العربي، أي دول الخليج والعراق، «منطقة مصالح قومية حيوية»! وبدأت تدخلاتها في الإقليم عبر مشاركة مخابراتها الحاسمة في إسقاط حكومة محمد مصدق الوطنية في إيران سنة 1953 بعد تأميم الأخيرة شركة النفط «الأنجلو-فارسية» التي أضحت اليوم شركة «بريتيش بتروليوم» المعروفة. العودة إلى هذه الوقائع ضرورية للتذكير بالطبيعة الاستعمارية لهذه السلعة «الاستراتيجية».
استندت الهيمنة الأميركية على العالم إلى ركيزتين أساسيتين: التفوق العسكري النوعي على جميع بلدانه الأخرى، وانتشار شبكة قواعد في أرجاء المعمورة، خاصة في الدول المنتجة للنفط أو في جوارها، للتحكم في الطرق والمضائق التي يتدفق من خلالها، بـ«أسعار مناسبة»، نحو المراكز الرأسمالية. بهذا المعنى، كانت الولايات المتحدة «شرطي الرأسمالية العالمية» خلال حقبة تشارف على الأفول. فالتغيرات الكبرى التي شهدتها موازين القوى الدولية، وأهمها تراجع قدرات واشنطن على السيطرة والريادة، وتخبطها خلال الجائحة الحالية آخرُ تجلياته، والصعود السريع والمستمر لـ«المنافسين غير الغربيين»، دفعت النخب الحاكمة الأميركية ودولتهم العميقة إلى اتخاذ قرار تطوير صناعة النفط الأميركية عبر الاستخراج الباهظ الكلفة للنفط الصخري. بحجة ضرورة تأمين الاكتفاء الذاتي الكامل في ميدان الطاقة، وتجنّب الاعتماد على النفط المستورد من بقاع مضطربة وخطيرة كالشرق الأوسط، وكذلك انطلاقاً من إمكانية تحول الولايات المتحدة إلى أحد أبرز المنتجين للنفط، وهي صارت أولهم سنة 2018، بررت هذه النخب قرارها الذي دخل حيز التنفيذ منذ أواسط العقد الأول من الألفية الثانية، خلال إدارة جورج بوش الابن، والتزمت به إدارتا باراك أوباما ودونالد ترامب. هذا القرار وسياقاته الجيوسياسية هما اللذان يسمحان بإدراك فعلي للخلفيات البنوية للانهيار التاريخي لأسعار النفط الأميركي، لا القراءات الاقتصادوية التي تكون غالباً ظرفية ومختزلة.
القراءة الاقتصادية الرائجة عن أسباب انهيار أسعار النفط الأميركي تربط بينه وبين تبعات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي، وكذلك نتائج «حرب الأسعار» بين روسيا والسعودية، والتي توقفت بعد التوصل إلى اتفاق جديد بينهما آخر الشهر الماضي. فمع تفشّي الفيروس، تراجع النشاط الاقتصادي ومعدلات الإنتاج على صعيد الكوكب بصورة كبيرة، ومعهما حركة انتقال الأشخاص داخل أو بين بلدانه، ما قاد إلى انخفاض الطلب على النفط بنسبة 30% في بضعة أسابيع، ومن ثم أسعاره. تبع هذا حرب الأسعار السعودية ــ الروسية، التي بدأت مع رفع الطرفين مستويات إنتاجهما من النفط والتنافس على تخفيض سعره إلى درجة تضخم فيها العرض في السوق العالمي على نحو غير مسبوق. تلازم هذين التطورين كان له آثار كارثية في صناعة النفط الصخري الأميركية الباهظة، التي لا تستطيع احتمال انحدار مماثل لأسعار النفط. ما زاد الأمر سوءاً لها وللصناعة النفطية الأميركية عامة هو امتلاء المخزون النفطي الاستراتيجي للبلاد بنسبة 70 إلى 80%، مع ما يترتب على ذلك من انخفاض في الطلب الداخلي. إن تحول النفط إلى «منتج مالي» يخضع للمضاربة في البورصات، يعني في الظروف الحالية أن مضاربين اشتروا عقوداً نفطية، ولا يمتلكون قدرة على بيعها بأسعار مناسبة أو على تخزين النفط، يوافقون على بيعها بأسعار بخسة. وتقدر إدارة المعلومات عن النفط، وهي وكالة مستقلة للإحصاءات في وزارة الطاقة الأميركية، أن الولايات المتحدة ستعود مستورداً صافياً للنفط خلال هذه السنة. يعني هذا الكلام أن مشروع الاعتماد على الذات في الحقل النفطي فشل فشلاً مدوياً.
ما لا تتطرق إليه القراءة الاقتصادوية هو الدور الحاسم للعوامل السياسية والجيوسياسية في إيصال الأمور إلى ما هي عليه. يجري الحديث عن الاقتصاد العالمي كأنه فضاء منفصل عن موازين القوى والصراعات بين اللاعبين الدوليين، تحكمه اليد الخفية للسوق وقانون العرض والطلب بمعزل عن العوامل الأخرى. تقر القراءة المشار إليها بأن بين دوافع موسكو والرياض في زيادة إنتاج النفط وتخفيض أسعاره، على رغم تنازعهما، رغبة مشتركة واضحة في توجيه ضربة قوية إلى صناعة النفط الصخري الأميركية المنافسة. هل كانت روسيا مستعدة منذ عشرين سنة مثلاً لاتخاذ مثل هذا القرار في ظل اختلال موازين القوى بينها وبين الولايات المتحدة؟ لم تتوقف الأخيرة عن مساعيها لمحاصرة روسيا عبر توسيع «الناتو» شرقاً ونشر البطاريات المضادة للصواريخ في جوارها وتنظيم الثورات الملونة في هذا الجوار، من دون أن نشهد رداً روسياً مباشراً. القرار بتخفيض أسعار النفط سياسي بامتياز، وهو رد على العقوبات الأميركية المفروضة على الشركات العاملة في مشروع «أنبوب السيل الشمالي 2» بين روسيا وألمانيا. التغير المستمر في موازين القوى الدولية والفرصة التي وفرتها الجائحة وتبعاتها على أميركا جعلا ما كان مستحيلاً في الماضي ممكناً حالياً. الأمر نفسه ينطبق على السعودية، على رغم العلاقة الحميمة التي تجمع وليّ عهدها، محمد بن سلمان، بترامب وفريقه، والتي لم تكن لتتجرأ على الإقدام على خطوة تمثّل مساساً بالمصالح الأميركية منذ بضع سنوات، ها هي تقوم بذلك اليوم نتيجة إدراكها لتراجع قوة الحليف وسطوته.
صحيح أن حرب أسعار النفط توقفت بعد الاتفاق بين أطراف «أوبك+» آخر الشهر الماضي، وبعد طلب أميركي عاجل، لكن مفاعيلها المهولة على صناعة النفط الصخري قد تؤدي إلى ألا تتعافى مستقبلاً، وهذا غاية بذاته للطرفين الروسي والسعودي كما أسلفنا. حتى قرار النخب الأميركية الاستثمار المكثف في قطاع النفط الصخري الباهظ، الذي اتُّخذ قبل عقد ونيف، هو قرار جيواستراتيجي وليس اقتصادياً، ووثيق الصلة باستشعارها العجز عن إمكانية المضي في تحمل أعباء وأكلاف قيام بلادهم بدور «شرطي الرأسمالية العالمية» إلى ما لا نهاية، وتأمين إمكانية الاعتماد على الذات في حقل الطاقة، في مواجهة احتمالات لتطورات غير منتظرة في الشرق الأوسط، وانقلاب في تحالفات بلدانه باتجاه منافسيها الدوليين. التوقعات بالنسبة إلى تبعات انهيار أسعار النفط على الاقتصاد والاجتماع الأميركيين شديدة التشاؤم، وإن تفاوتت مستوياته. المؤكد أن «لعنة النفط»، بعد «لعنة كورونا»، ستسرّع وتيرة الانتقال إلى حقبة «ما بعد الغرب» التي توازي في نظر كثيرين فتح نافذة فرص نحو احتمال غد أفضل.