عالم ما بعد الفيروس.. بقلم: أمينة خيري

عالم ما بعد الفيروس.. بقلم: أمينة خيري

تحليل وآراء

الاثنين، ٦ أبريل ٢٠٢٠

كل تفصيلة من تفاصيل «كورونا» منذ مطلع العام الجاري 2020 جديرة بالتفكر والتدبر. وبعيداً عن تفاصيل الفيروس، وما أدى إليه من قلب حال الكوكب رأساً على عقب، وضرب عرض الحائط بالمسلمات، إلا أنه فتح آفاقاً لا أول لها ولا آخر أمام عالم جديد.
إنه عالم ما بعد الفيروس، المختلف عما قبله، إن لم يكن على مستوى الأمم، فعلى مستوى المليارات من أبناء هذه الأمم. قرارات التغيير تدور رحاها دون أن يدرك أصحابها منذ تفجر أزمة الفيروس. كثيرون لا يدركون أن حياتهم تتغير وستتغير بفعل الفيروس، لكن بعد انتهاء الأزمة وعودة الحياة إلى إيقاعها، سيتضح حجم التغيير.
التغيير أثبت بالحجة والبرهان أن العالم بالفعل قرية صغيرة. لم تعد العبارة مجرد مقولة تناقلتها الأجيال منذ تفوه بها الفيلسوف والكاتب الكندي مارشال مكلوهان في ستينيات القرن الماضي، مشيراً إلى ما يعرف بالحتمية التكنولوجية للمجتمعات. صارت العبارة حقيقة، ومشاعر أهل بريطانيا من خوف وهلع على أنفسهم وأحبائهم متطابقة، وتلك السائدة في مصر وأمريكا واليابان وإسبانيا والهند وروسيا. لا يهم كثيراً كيف يعبر قادة الدول عن «قلقهم»، لكن قلق الشعوب متطابق.
عولمة القلق أعادت إلى البشر طبيعة ظنوا إنها فُقِدت في زمن الرفاهية والاستهلاك والاستمتاع والتفنن في تجذير الهوة بين من يملك ومن لا يملك، صار الجميع سواسية. من جهة أخرى، أدت هذه الترجمة العملية للعولمة إلى يقين بأن من كان يظن من سكان الكوكب أنه في مأمن في بلاده البعيدة عن مجاعات أفريقية أو زلازل آسيوية أو براكين لاتينية وغيرها، بات يعرف أن ظنونه كاذبة.
الفيروس أسس لنظام عالمي جديد لم تتضح معالمه بعد، صحيح أن البعض يتكهن بصعود دول، وسقوط أخرى، لكن ليس هذا المهم. المهم أن الفيروس هدم مفاهيم- يبدو أنها كانت خيالية- لدى كثيرين. لم تعد الدول الغربية أيقونة الإمكانات والتجهيزات، وفقد العديد من دول العالم الأول مكانته في العرف الشعبي العربي، حيث الجاهزية في اتخاذ القرار، والاحترافية في التعامل مع الوباء، والمهارة في حماية الشعوب.
حماية الشعوب هي الأخرى مفهوم سيتبدل في زمن ما بعد الفيروس، فبين جائحة وضحاها، لم يعد هم العالم صراعات هنا واقتتالات هناك، ومتابعة عداد القتلى وموجات اللاجئين والمهاجرين. طغى صراع واحد هو صراع سكان الأرض في مواجهة فيروس قاتل، والمتابعة أصبحت من نصيب مصابيه وقتلاه، والعداد تحول صوب المستشفيات والبيوت، وبالطبع تقهقر اللاجئون والنازحون ليخرجوا تماماً من اهتمام الكوكب.
جانب من اهتمام الكوكب- بفعل «كورونا»- صار منصباً على الرقمنة. لم تعد الحكومات الإلكترونية وإنجاز الأعمال «أون لاين» وإبرام الصفقات وعقد الاجتماعات والتعلم عبر الشاشات رفاهية قابلة للرأي والرأي الآخر، بل صارت أقرب ما يكون إلى فرض العين.
وعلى ذكر الرأي والرأي الآخر، فإن الفيروس اللعين من شأنه أن يحرك أمواج الفكر ولو سراً لطرح تساؤلات عما إذا كانت الديمقراطية هي بالفعل أرقى وأعظم وأنقى وأنسب أنظمة الحكم على ظهر الأرض، وسيخشى من تنتابهم هذه الأفكار أن يجاهروا بها خوفاً من أن يُتهموا بالترويج للسلطوية أو الدعوة للانفراد بالقرار.
قرار المليارات حول الأرض بتغيير تفاصيل حياتهم الصغيرة في خلال أيام معدودة سيكون من شأنه أيضاً أن يدلي بِدَلْوِه في شكل العالم في زمن ما بعد الفيروس، فبدءاً بغسل الأيدي كل بضع دقائق، مروراً بمراعاة المسافات الاجتماعية والتعاملات الأسرية مع الفئات الأكثر عرضة للإصابة، وانتهاء بالامتثال لقرارات الحظر والحجر والعزل دون شرط تطبيق غرامات وفرض عقوبات، يكتشف البشر في أنفسهم ملكات وقدرات وأفكار لم تطرأ على بالهم يوماً.
كما لم تطرأ على بال الأغلبية يوماً أن يكونوا ممتنين شاكرين لفنجان القهوة الذي يحتسونه، أو رغيف الخبز الذي يشترونه، بل النفس الذي يتنفسونه. أغلب الظن أن ما كنا نتعامل معه باعتباره أموراً مفروغاً منها سيصير أموراً نمتن لوجودها.
ومع الامتنان يأتي الافتقاد، افتقاد ما لا نملكه أو مالا نملك الكفاية منه، ولعل البحث العلمي يأتي على رأس قائمة المفتقدات في هذا الجزء من الكوكب. جهود وخطوات جرت في معامل العالم الأول في صراع محموم على أمل الوصول للقاح أو علاج، إنه عالم ما بعد الفيروس.