مسعى غربي لتهشيم «أستانا».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

مسعى غربي لتهشيم «أستانا».. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٣ مارس ٢٠٢٠

أكثر ما يتسم به التصعيد الحاصل في إدلب، والذي بلغ في الأسبوع الماضي ذروات غير مسبوقة، هو أنه من النوع المهيأ للاضطرام، بفعل تصادم الإستراتيجيات الحاكمة هناك، حيث تبدي طبيعة النار هذه المرة قابلية شديدة لارتفاع ألسنتها إلى قمم لم تصلها في السابق، وهو إذ يبدي تلك القابلية يعيد الأزمة السورية إلى مطارح كانت قد غادرتها منذ مطلع العام 2017 عندما أعلن عن انطلاق مسار أستانا الروسي التركي الإيراني لحل تلك الأزمة بطريقة أوحت آنذاك بمحاولة لتحييد الأثر الغربي في الحلول المفترضة التي يمكن لذاك المسار أن يجترحها، وإن كان هذا الأخير، أي الأثر الغربي، لم يغب تماماً عن كامل المشهد، صحيح أن مهادنة الغرب لذاك المسار كانت ترمز بالدرجة الأولى إلى اعتراف هذا الأخير بالأمر الواقع الذي فرضته عوامل عديدة جيوسياسية في أبرزها، إلا أن ذلك كله لم يكن يعني بحال من الأحوال أن العين الغربية قد أشاحت بنظرها عن المشهد الذي ترسمه تطورات المشهد السوري ببعديه الميداني والسياسي، فتلك العين لم تترك منعرجاً أو ثقباً إلا وحاولت الولوج من خلاله إلى ذينك البعدين، ومن خلالهما التمدد إلى استانا الذي استطاع الصمود لثلاثة أعوام كاملة بالرغم من الهزات العديدة التي أصابت سكّته وعربته في آن، إلا أن هذا الحال كما يبدو الآن لم يعد قائماً أقله وفق رتمه السابق الذي كان يسير عليه، والتصعيد التركي الراهن أخذ يستحضر اليوم محاولة حثيثة ترمي إلى إعادة تدويل الأزمة السورية في مواجهة تصلب روسي يبدي في الكثير من محطاته صلابة لربما لم تكن متوقعة للأتراك.
حماوة ملف إدلب البادئة منذ شهر كانون أول الماضي كانت خطوة استباقية تستحضر استحقاقات هامة سوف تكون الأزمة السورية على موعد معها بالتزامن مع بداية الصيف المقبل، والأبرز منها دخول «قانون قيصر» حيز التنفيذ، مرورا بمؤتمر بروكسل للمانحين الذي سيحدد شروط المساهمة في إعادة إعمار سورية، ثم وصولا إلى خلاف غربي روسي حول كيفية إيصال المساعدات الإنسانية إلى الداخل السوري ومن يشرف عليها، إلا أن ارتفاع حدة الحماوة للدرجة الكافية بتذويب الإرادات هذه المرة خلال شهر شباط المنصرم كان قد كشف عن تباعد روسي تركي يصل في عمقه إلى حدود الافتراق الإستراتيجي الذي كان لا بد له أن تبين مظاهره في وقت من الأوقات.
في استقراء الاستراتيجية الروسية المعتمدة على امتداد المنطقة، وفي قلبها الجغرافيا السورية، يمكن لحظ أن أبرز أهداف تلك الإستراتيجية يتمحور حول زعزعة استقرار الوجود الأميركي فيها، الأمر الذي يشكل في اللوحة العالمية تفتيتا لأحادية القطب الواحد وبداية لارتسام أخرى بديلة تختطها ريش أقطاب متعددة، والمؤكد هو أن موسكو حققت خطوات هامة في هذه الاستراتيجية، وفي أتونها كان تأييد موسكو لعملية «نبع السلام» التركية في الشرق السوري تشرين الأول الماضي التي أدت بشكل ما إلى انكماش الدور الأميركي في سورية، فيما الرهان الروسي القادم هو على قفزة أخرى تؤدي إلى اقتلاعه، وعلى الضفة العراقية كان البرلمان العراقي قد اتخذ ما بعد حادثة اغتيال الجنرال قاسم سليماني مطلع هذا العام قرارا يقضي بإخراج القوات الأميركية من العراق، إلا أن موسكو تدرك جيداً أن نجاحها في تلك الإستراتيجية لا يمكن له أن يتم إلا عبر علاقة مميزة مع أنقرة، وبمعزل عنها سوف تصبح كفة المعوقات راجحة على كفة المحفزات في ذلك الفعل، ومن هنا تكمن الإشكالية الكبرى الراهنة في علاقة موسكو بأنقرة، والتي تمظهرت في تصعيد عسكري لا يزال تحت السيطرة، والراجح أن يبقى في وضعيته تلك، حتى وإن كان يبدي ميلاً إلى خروجه عنها تبعا للنتائج التي ستفضي إليها المحاولات الروسية الرامية لاحتوائه.
حالة الاحتياج الروسي لتركيا في مشروع استراتيجي من هذا العيار، لا يعني بالنسبة إلى موسكو النزول عند طلبات أنقرة، بل لا يعني أيضا قبولها بالعديد من ملحقاتها من نوع اللبوس الذي تتخذه وكذا الآليات المعتمدة فيها، ولذا فإن المواجهة الراهنة هي أقرب لأن تكون محاولة روسية تهدف إلى ترويض أنقرة وجعل سياساتها الراهنة قابعة بين فكي ثنائية حدها الأول هو أخذ مصالحها، أي مصالح أنقرة، بعين الاعتبار، فيما حدها الثاني هو تخليها، أي تخلي أنقرة أيضا، عن الإيديولوجيات المعتمدة من نوع «الميثاق المللي» الذي أعلنه مصطفى كمال أتاتورك العام 1920 والذي ارتأى فيه أن الشمالين السوري والعراقي هما منطقتان يجب أن تقعا تحت النفوذ التركي، ومن الراجح أن المحاولة الروسية لحصر السياسة التركية بين ذينك الفكين ستلقى نجاحاً، قياسا إلى معطيات عديدة منها براغماتية الرئيس التركي رجب أردوغان التي دخلت طورا جديدا منذ بدء علاقته الدافئة مع موسكو صيف العام 2016، ومنها أيضا انكفائية الناتو الذي نأى بنفسه عن طلب أنقرة تفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تقضي بمساعدة أي من دول الحلف في أية مواجهة عسكرية، فيما قبل الحلف فقط بتفعيل المادة الرابعة التي يمكن لتركيا من خلالها التشاور مع أعضاء الحلف عند شعورها بالتهديد، هذا السقف الذي حدده الناتو هام جداً وهو قد لا يمثل رسالة أراد إيصالها إلى أنقرة فحسب، بل الرسالة ستصل حتما إلى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة التي جعلت من حدود الناتو على أعتاب حدود الاتحاد الروسي، وهي في مطلق الأحوال تمثل مكسبا كبيرا لسياسات فلاديمير بوتين الرامية إلى خلخلة الثقة بالناتو أولاً، ثم إلى زرع بذور الخلاف بين أذرعه الأساسية.
من المؤكد أن الإعلان عن الاتفاق الروسي التركي الخاص بإدلب يوم السبت الماضي لا يمثل خروجاً عن هذه السياقات السابقة، ولا هو يمثل تحولا في الاستراتيجية الروسية، والاتفاق يمثل حالا من الافتراق أكثر مما يمثل حالاً من التوافق، ولربما لم يكن من أمر موجب له سوى داع واحد هو محاولة تهيئة المناخات للقاء محتمل بين بوتين وأردوغان في موسكو 5 أو 6 من الشهر الجاري، فأنقرة أرادت لاتفاق السبت أن يكون دائماً على حين أرادته موسكو مؤقتاً بانتظار أن ينجح لقاء الثلاثاء، أو الأربعاء، المفترض في إنضاج اتفاق جديد قد لا يشبه سوتشي كثيراً.