فيروس كورونا وانتحار همنغواي.. بقلم: رشاد أبو داود

فيروس كورونا وانتحار همنغواي.. بقلم: رشاد أبو داود

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٨ فبراير ٢٠٢٠

ذهب لزيارة جاره الجديد. قال للحارس: أنا جاركم، أريد أن أتعرف على صاحب البيت. قال له الحارس: أعتذر فإن سيدي يعمل الآن. نظر إليه الرجل وقال له باستغراب: لكنه هناك جالس وحيداً على الشرفة.
قال الحارس: نعم لكنه يعمل. ظن الرجل أن ثمة خللاً ما في عقل الحارس أو في عقل سيده. في اليوم التالي رأى الرجل جاره يعمل في حديقة المنزل، ينكش الأرض وعرقه يتصبب من جبهته، فمضى في حال سبيله وإذ بالحارس يناديه: سيدي.. سيدي.. تفضل يقول لك سيدي إنه مستعد لاستقبالك الآن فإن هذا وقت فراغه. اندهش الرجل وقال للحارس: لكني أراه يعمل في الحديقة وأمس كان يجلس ساهماً. رد عليه الحارس: نعم، إن سيدي كاتب، عندما رأيته أمس كان يفكر، أما اليوم فإنه يمضي وقت فراغه مع الشجر.
كان ذلك الكاتب هو الأمريكي ارنيست همنغواي صاحب رواية «العجوز والبحر» و«وداعاً للسلاح» و«ثلوج كلمنجارو» و«لمن تقرع الأجراس» و«جنة عدن» وغيرها. وبفضل «العجوز والبحر» حاز همنغواي جائزة نوبل في الأدب وجائزة بوليتزر الأمريكية «لأستاذيته في فن الرواية الحديثة ولقوة أسلوبه، كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الأخيرة «العجوز والبحر» كما جاء في تقرير لجنة نوبل.
غلبت عليه في بداية كتاباته النظرة السوداوية للعالم، إلا أنه عاد ليجدد أفكاره، فعمل على تمجيد القوة النفسية لعقل الإنسان في رواياته، غالباً ما تصور أعماله هذه القوة وهي تتحدى القوى الطبيعية الأخرى في صراع ثنائي وفي جو من العزلة والانطوائية، لكن موته منتحراً ببندقية أهداها له والده المحب للصيد وهو صبي وظلت رفيقته، يشي بأن الإنسان لا يمكنه أن يتحدى الطبيعة كما أراد همنغواي من «العجوز والبحر».
في خريف عام 1934، سافر شاب مغامر أراد أن يصبح كاتِباً إلى مدينةِ فلوريدا ليلتقي بمثله الأعلى «إرنست همينغواي». ذاك الشاب هو أرنولد صامويلسون 22 سنة، وُلدَ في منزل فقير شمال داكوتا لأبوينِ نرويجيّين مُهاجرينِ. أتمّ دورتهُ في الكتابةِ الصّحفيّة بجامعةِ مينيسوتا. بعد تخرّجه في الكليّة أراد أن يرى أرجاء البلاد، فقام بوضع كمانِهِ في حقيبة للظّهر، وسافرَ إلى كاليفورنيا مجّاناً على طريقة الأوتوستوب. ما دفعه للسفر ألفا ميل بعد أن قرأ قصة قصيرة لهمنغواي انبهر بها فقرر أن يلتقيه ويسألهُ عن بعضِ النّصائح.
يقول صامويلسون: عندمَا طرقت على الباب الأماميِّ لبيتِ همنغواي خرج ووقف مباشرة أمامي، نظر إليّ منزعِجاً بعينينِ شبهِ مغمضتينِ، منتظراً منّي أن أتكلّم أولاً.
«ما الذي تريده؟» قال همنغواي. بعد لحظة غريبة، قام صامويلسون بتوضيح الأمور حول معاناته قادماً من مدينة مينيبوليس فقط لكي يراه. قرأت قصّة لك. أُعجبت بها بشدّة فأتيتُ إلى هنا لأكلّمك قليلاً. بدت علاماتُ الاسترخاءِ على همنغواي قائلاً: «لماذا لم تقل أنّك فقط تريدُ أن نخوضَ حواراً وِدّياً على مهلٍ؟». أخبره همنغواي بأنّه مشغول، لكنّه دعاهُ ليعود لزيارتهِ في الواحِدةِ والنّصفِ ظهر اليوم التالي.
عاد صامويلسون إلى المنزل ووجد همنغواي جالساً في الشّرفةِ الشّماليّة، مرتدياً سِروالاً كَاكِـيّاً وخُفيِّ غرفةِ النّوم. وبدأ الاثنان بالكلام. يقول صامويلسون «لقد كُنتَ في منزلِه لكن ليس داخله، وكأنّك تتحدّثُ إلى رجُلٍ خارجَ الشّارع». عرضَ عليه همنغواي بعض النصائح. قال:«أهمُّ شيءٍ تعلّمتهُ عن الكتابة هو ألّا تكتب أكثر من اللّازم دفعةً واحدة، لا تَضُخَّ نفسكَ لدرجةِ الجفافَ.
اُترُك قليلاً لليومِ القادِم، لا تنتظر حتّى تنتهِيَ الكلماتُ من جعبتِكَ، عندما تُدركُ أنّك تُبلي جيّداً وأنّك بلغتَ مرحلةً مهمّةً تعرِفُ فيها ما الّذي سيَحدثُ في المشهَدِ التالِي، هذا هو الوقتُ الذي تتوقفُ فيه. بعدها دع كل شيءٍ ولا تفكّر في الموضوع، واجعل عقلك الباطن يتولّى هذه المهمّة. في صباح الغد وبعدَ أن تحظى بنومٍ هنيء جيّد وتستنشق بعض الهواءِ المُنعِش، أعِد تدوين ما كتبتَهُ في اليومِ السّابِق.
وعندما تصِلُ لتلك المرحلةِ المهمّة التي كنت قد بلغتهَا وتعلمُ ما الذي سيحدثُ في المشهدَ التالي، قُم بمواصلةِ الكتابة انطلاقاً من تلك النّقطة وتوقّف عند مرحلة أخرى أشدّ وأكثرَ أهميّة. بهذه الطّريقة، عندما تتوغّل أكثر في الأحداث، ستكون قصّتك مليئة بالمراحل والمشاهد المهمّة وعندما تكتب رواية ستجعلها تجذب الاهتمام ما دمت تمضي في مواصلةِ الكتابة.
لقد كان همنغواي روائياً ناجحاً وجعل العجوز ينتصر على سمكة القرش، لكن الحياة ليست رواية تكتب، بل واقع يعاش ولذلك انتحر. وها هو الإنسان عاجز عن مواجهة فيروس كورونا الذي لا يرى بالعين المجردة!
* كاتب أردني