«الناتو» يبدأ التحرّك في المنطقة.. بقلم: د. محمد عاكف جمال

«الناتو» يبدأ التحرّك في المنطقة.. بقلم: د. محمد عاكف جمال

تحليل وآراء

الجمعة، ٢١ فبراير ٢٠٢٠

أعربت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب منذ عام 2017 عن عزمها التخفيف من انشغالات قواتها العسكرية بمهام التدريب وتقديم المشورة والقتال ضد الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وبشكل خاص في العراق لصالح زيادة دور حلف الناتو.
وذلك انطلاقاً من حقيقة أن القارة الأوروبية تتعرض لمخاطر الإرهاب أكثر من تعرض الولايات المتحدة لها لبعدها الجغرافي عن بؤر الإرهاب، فضلاً عن أهمية المنطقة قديماً وحديثاً لمصالح القارة التي تشغل دولها أغلبية مقاعد مجلس الحلف.
هناك عقبات اعترضت تحقيق ذلك في حينه أبرزها معارضة كل من فرنسا وألمانيا أبرز دولتين في الحلف تحسباً لاحتمالات التوسع في نشر قوات بلديهما وما يترتب على ذلك من ارتفاع في تكاليف عملياتها من جهة، وتخوفاً من الانجرار نحو احتكاكات قد تقود إلى مواجهات غير محسوبة مع قوات دول أخرى في المناطق التي تشهد حضوراً إرهابياً مثل قوات روسيا أو تركيا أو سوريا من جهة أخرى .
إضافة إلى الخلافات التي تصاعدت داخل الحلف وأضعفت وحدته على قاعدة الموقف الذي اتخذته هاتان الدولتان بالتمسك بالاتفاقية النووية مع إيران التي مزقتها الولايات المتحدة.
تحسنت فرص تحقيق ذلك في الآونة الأخيرة بعد مجيء بوريس جونسون لرئاسة الوزارة البريطانية وخروجه من الاتحاد الأوروبي وتقارب مواقف إدارته من مواقف الإدارة الأمريكية.
كما أن مواقف الدول الأوروبية عموماً خاصة فرنسا وألمانيا بدأت تتباعد عن استراتيجية الحفاظ على العلاقات مع إيران التي بدأت بالتخلي عن التزاماتها في الاتفاقية النووية وزادت من إصرارها على المضي قدماً بتطوير برنامج الصواريخ البالستية المقلق إقليمياً ودولياً.
جددت واشنطن طلبها هذا على لسان الرئيس ترامب أخيراً على قاعدة برود علاقاتها مع بغداد والتباعد عنها بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني، حيث اتخذ المجلس النيابي العراقي قراراً بإلزام الحكومة إخراج القوات الأجنبية من الأراضي العراقية، وهو قرار من الصعب جداً تنفيذه لتعقيد آليات ذلك، فحسابات واشنطن وتصوراتها لمسارات ومآلات أحداث المنطقة غير حسابات بغداد وتصوراتها.
في ضوء هذه المتغيرات، وفي الذكرى السبعين لتأسيس الحلف اتخذ وزراء دفاعه بحضور وزير الخارجية الأمريكية في الثاني عشر من فبراير الجاري قراراً بتوسيع مهامه في العراق بأعداد إضافية من الجنود في عمليات غير قتالية تتضمن التدريب وتقديم المشورة.
يأتي هذا القرار كمحاولة لرأب بعض الصدوعات في بنية الحلف، وليعيد إلى الواجهة الجدل حول وجود القوات الأجنبية في العراق، جدل تراجعت وتيرته بعض الشيء مع الإشكالات التي تحيط بتشكيل الحكومة الجديدة التي أصبح لها الأولوية في الاهتمام في الدوائر السياسية.
لسنا بصدد الدخول بتفاصيل تتعلق باللوجستيات التي يتطلبها وضع القرار موضع التنفيذ وهي كثيرة، إلا أنه يمكن القول إنه قرار سياسي بالدرجة الأولى وليس قراراً عسكرياً أو أمنياً فحسب، فرغم أنه اتخذ في سياقات تأمين الدفاعات العراقية ضد قوى الإرهاب فإن له أبعاداً تتجاوز ذلك إلى الذهاب نحو استراتيجيات جديدة في التعامل مع الأزمات على المستويين الإقليمي والدولي وعلى الأمدين المتوسط والبعيد، إثر بزوغ قوى إقليمية ذات طموحات توسعية بدأت تقلق أمن المنطقة بالتجاوز على سيادة دولها، بشكل لا يمنع امتداد خطورة ذلك إلى الأمن الدولي على المدى البعيد.
قرار الناتو يتعارض مع ما أعلنته بعض القوى العراقية من رفض لوجود القوات الأجنبية إلا أن ذلك يمكن تفهمه إذا أخذنا بنظر الاعتبار درجة الحساسية لوجود هذه القوات الأجنبية أو تلك في ضوء الظروف التي يمر بها العراق، وما يتعرض له من تهديدات إرهابية ومن ضغوط إقليمية. فحساسية معظم القوى العراقية من وجود الناتو أقل كثيراً من حساسية بعض هذه القوى من الوجود العسكري الأمريكي التي تصاعدت شدتها أخيراً.
فقد أعلن الأمين العام للحلف بأن الحكومة العراقية قد منحت الحلف الضوء الأخضر للعودة لممارسة نشاطاته التي توقفت لبعض الوقت.
مضيفاً «سوف نبقى في العراق طالما كنا موضع ترحيب». والحقيقة أن ثمة أهمية أخرى لزيادة انشغال الناتو في الجهود المبذولة في الحرب على الإرهاب لها صلة بشكل غير مباشر بملف الانتخابات الرئاسية القريبة، فهي تعزز من حملة الرئيس ترامب، لأن قرارات التخفيف من الأعباء التي تتحملها الولايات المتحدة في الخارج تلاقي دائماً ترحيباً شعبياً.
* كاتب عراقي