حتى الدروب الضيقة يجب أن تمر بموسكو.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

حتى الدروب الضيقة يجب أن تمر بموسكو.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١١ فبراير ٢٠٢٠

كثير من التوقعات التي سبقت لقاء الوفدين الروسي والتركي في أنقرة يوم السبت الماضي كانت قد رجحت أن يخرج طرفا اللقاء باتفاق سوتشي جديد أو سوتشي معدل يمكن أن يحمل بين ثناياه رسم خطوط تماس جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحولات الحاصلة في غضون الأسابيع القليلة الماضية والتي وضعت طلائع الجيش السوري على مشارف مدينة إدلب القريبة.
التوقعات السابقة الذكر كانت تمتلك المشروعية من حيث إن الكثير من المعطيات كانت تشير إلى إمكان أن تسير النتائج نحو ترجيح كفتها، كان ذلك عشية الإعلان عن عزم وفد روسي يوم الخميس الماضي التوجه إلى أنقرة لبحث ملف بات الآن يمثل الامتحان الأصعب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بل يمكن القول إن هذا الأخير يرى فيه، أي في ملف إدلب ونظيره في ريف حلب الغربي، اللبنة الأساس في مشروعه السوري، التي إن انهدمت كان لزاما أن تشهد اللبنات التي نجح في بنائها في مناطق الشرق انهدامات متتالية هي الأخرى.
كانت المناخات التي أشاعتها أنقرة قبيل اجتماع السبت الماضي تهدف إلى ممارسة أقصى الضغوط على موسكو، ففي 29 من كانون الثاني الماضي كان أردوغان قد قال أمام تجمع لصحفيين تحلقوا حوله عند عودته من زيارة خاطفة للسنغال: «لم يبق هناك شيء اسمه مسار أستانا»، وإن كان قد حرص على أن يختم حديثه بالأمل في حدوث تحرك جديد لإعادة إحيائه، ولا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى ذلك التصريح إلا في إطار نزعة استفزازية تبدو فاضحة، لأنه أول من يدرك أن بلاده لا تملك توكيلاً بتعليق «ورقة نعي» تعلن فيها موت أستانا، ناهيك عن أنها، أي بلاده، هي المتضرر الأكبر من حدوث فعل من هذا النوع، إذ لطالما كان إطلاق ذلك المسار في العام 2017 هو بمنزلة إحياء للدور التركي في سورية بعد أن كان هذا الأخير قد بدأ بالتلاشي بين أواخر تشرين الأول 2015 الذي شهد إسقاط الأتراك لطائرة السوخوي الروسية، وبين مطلع آب 2016 الذي شهد المصالحة في أعقاب ذلك الحدث، وفي 4 من شباط الجاري ذهب أردوغان إلى تهديد الجيش السوري «ومن خلفه» بعمل عسكري فكان الرد بدخول هذا الأخير مدينة سراقب بعد مرور 24 ساعة على ذلك التهديد، الأمر الذي وجد أردوغان نفسه فيه مضطرا لأن يكون جنباً إلى جنب مع «لواء التوحيد» الذي يقوده عبدالله عزام الأفغاني في النيرب في ريف حلب الغربي، وفي معركة أصبح فيها حليفاً ظاهراً لـ«حراس الدين» و«أجناد القوقاز» و«الحزب التركستاني» وكلها فصائل مصنفة إرهابيا حتى على لوائح أنقرة نفسها.
قبيل يوم واحد من انعقاد اجتماع أنقرة قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن بلاده «تعيد تقييم المرحلة التي عملت بها مع روسيا كضامن للنظام السوري»، الأمر الذي كان يعني في تراجمه تهديداً لموسكو بترك مسافة مع التلاقيات السابقة التي كانت سائدة ما بعد العام 2017، دون أن يعني ذلك التهديد أنه يمتلك المشروعية لأن يكون خياراً واقعياً انطلاقاً من اعتبارات عديدة، فأردوغان نفسه لا يبدو مطمئناً للموقف الأميركي الذي سارع إلى تأييده بعد الاشتباك التركي السوري في الترنبة قرب سراقب ليل 2-3 شباط الجاري والذي سقط فيه 6 من الجنود الأتراك بينما جرح 7 آخرون، والأمر كان قد قرِئ تركياً على أنه محاولة أميركية للعب بين شقوق التوتر الروسي التركي الراهن في سورية، ناهيك عن أن التوتر مع الاتحاد الأوروبي كان قد وصل إلى ذروة عالية هو الآخر والأبرز فيه كان مع باريس التي اتهمته بخرق اتفاق برلين الخاص بالأزمة الليبية، بينما يرقب أردوغان جيداً حالة تحفز إقليمي تمثلها مصر وبعض دول الخليج وهي تتحين الفرصة لتقليم تمديدات مشروعه.
هذه المعطيات السابقة لا تشير إلى وضع جيد يرى أردوغان نفسه فيه لممارسة الابتزاز تجاه موسكو التي صنفت زيارته الأخيرة إلى أوكرانيا في 3 من الشهر الجاري، والتصريحات التي أطلقها منها بشأن عدم اعتراف تركيا بضم شبه جزيرة القرم الحاصل 2014، ناهيك عن الشطحات التي حفل بها البيان الصادر بعد لقاء أردوغان مع نظيره الأوكراني بدءاً من القول إن المناقشات تناولت وضع التتار في القرم وانتهاء بإطلاق مشروع تعميق الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، وجميعها كانت تعني قفزا فوق حقائق عديدة من شتى الأنواع، لكن الأهم هو أن القراءة البعيدة لموسكو كانت تلمس في سياسات أردوغان سعيا نحو إحلال تركيا في المقعد الأوروبي الذي شغر منذ 31 من كانون الثاني الماضي بخروج بريطانيا من الاتحاد، وهو مسعى كفيل وحده، سواء نجح أم لم ينجح، بأن يلقي بظلاله الثقيلة على علاقته بموسكو التي تسعى إلى أضعاف الاتحاد الأوروبي إن لم يكن إلى تفكيكه إن أمكن.
عكس البيان الصادر عن وزارة الخارجية التركية في أعقاب انتهاء المفاوضات بين الوفدين الروسي والتركي في أنقرة 8 من شباط الجاري حالاً من الفشل البائن لكنه مؤقت على الأرجح، بمعنى أن الظروف لم تكن ناضجة ميدانيا بعد للوصول إلى توافقات نهائية تسعى إليها موسكو، وهو ما يعبر عنه الوفد الروسي الذي اشتمل على ساسة وعسكريين ورجال استخبارات، وعليه فإن المرحلة القريبة ستشهد المزيد من جولات التفاوض بهدف التوصل إلى اتفاق تشير كثير من المعطيات إلى أنه سيكون أقرب إلى «أضنة 2» وليس إلى «سوتشي 2»، وهو أمر يمكن أن يعلن إذا ما سارت التوافقات وفق هذه التصورات السابقة قبيل نهاية الشهر الجاري عبر لقاء محتمل للرئيسين التركي والروسي.
الآن ما بعد اجتماع أنقرة الفاشل فإن موسكو تكون قد قررت المضي قدما في دعم الجيش السوري في إدلب إلى حين نضوج تلك التوافقات، أما أنقرة فيبدو أنها مضطرة إلى انتظار المهلة التي حددها أردوغان بنهاية شباط لانسحاب الجيش السوري إلى ما وراء نقاط المراقبة على أمل حدوث اختراقات قبيل انقضاء تلك المهلة.
مسألة مهمة استحضرها التوتر الروسي التركي الأخير في سورية والذي وصل إلى حدود تهديد أردوغان بشن عملية عسكرية في إدلب، وهي تتلخص بسؤال تصعب الإجابة عنه نظرياً وفحواه: ما الدور الذي كانت ستؤديه منظومة الـ«اس400» الروسية المنصوبة في تركيا، فيما لو كانت مفعلة، إذا ما حدث احتكاك جوي بين طائرات تركية يفترض أن تهاجم الجيش السوري وطائرات روسية ستتصدى لها في هجومها ذاك؟