طموحات كوشنير بعهدة إعلام البترودولار: هناك ما هو أخطر من صفقة القرن

طموحات كوشنير بعهدة إعلام البترودولار: هناك ما هو أخطر من صفقة القرن

تحليل وآراء

الأحد، ٩ فبراير ٢٠٢٠

منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب، اعتاد الرؤساء الأميركيون اختتام ولاياتِهم الرئاسية بالالتفاتِ إلى الشرقِ الأوسط عبرَ مبادراتٍ استعراضية لإعادة إنعاش مسار مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل، بعض هذه المبادرات لم تخلُ من الجديّة كما فعلَ الرئيس الأسبق بيل كلينتون، وبعضها الآخر كان من بابِ تسجيلِ المواقف لا أكثر على طريقةِ جورج بوش الابن، والذي اختتم مسيرتهُ السياسية الملطخة بدماءِ ملايين الضحايا والأبرياء في العراقِ وأفغانستان وفلسطين بمؤتمرِ أنابوليس، أما باراك أوباما فقدم ما هوَ أهم من المبادرات الاستعراضية، وهل هناك من هديةٍ لإسرائيل أجملَ من شرقٍ أوسط مدمَّر؟ لنصلَ في النهاية إلى مبادرة الرئيس دونالد ترامب والتي باتت تعرف باسم «صفقة القرن».
اللافت بهذهِ المبادرة أنها تبدو كخطةٍ جاهزة وليست مجردَ دعواتٍ للعودةِ إلى المسار التفاوضي عبرَ رعايةِ هذا الطرف أو ذاك، كذلك الأمر فهي تأتِي بعكسِ سابقاتها مع نهايةِ الولاية الأولى لترامب، بطريقةٍ توحي وكأن الرجل الذي يستند للأرقام الجيدة التي حققها في الداخل الأميركي عبرَ الاقتصاد وخفض البطالة، معطوفةً على الخدمات الجلية التي قدمها لإسرائيل، بات يتصرف وكأنَّ الولايةَ الثانية باتت في جيبه.
ربما قيلَ وكُتب الكثير عن هذهِ الصفقة حتى قبلَ الإعلان عن مضمونها، فهناك مثلاً المقتنع بأنها ولدت ميتة، وهناك من يتوهم بأن فرصَ نجاحها شبهَ معدومة فهي مجرد تقطيعٍ للوقت، وغيرها الكثير من التحليلات التي تقزِّم خطورةَ ما يجري بطريقةٍ إنشائية، لأنها ببساطةٍ ركزت على فكرةِ الصفقة بما يتعلق بالفلسطينيين ولم تأخذ بالحسبان الظروف المحيطة بها والتي تتجاوز عملياً حدود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتأتِ المقابلة التي أجراها قبلَ أيام جاريد كوشنير صهر الرئيس الأميركي ومستشاره، فتضع النقاطَ على الحروف حول الهدف القريب والبعيد من الصفقة، مقابلة لا بد من النظرِ إليها بالكثيرِ من التروي باتجاهين أساسيين:
أولاً: في الشكل، كان واضحاً بأن هدفَ المقابلة الأول هو الترويج للصفقة بين الشريحة الأوسع، ليس للناطقين بالعربية فحسب لكن للمسلمين جميعاً، حيثُ أعادَ كوشنير لعدةِ مراتٍ التأكيد على أن الصفقة ستسمحُ لجميع المسلمين عبر العالم بالدخول إلى المسجدِ الأقصى للصلاةِ فيه، ليس ذلكَ فحسب بل أن استهداف هذهِ الشريحة كان ضرورياً لإيصالِ عشرات الرسائل المغلوطة، فبحسب كوشنير فإن تقارب إسرائيل مع العالم الإسلامي سيمنع المتطرفين من استخدام اسم القدس للتجارة بهِ كما يفعل الإيرانيون، وبالسياق ذاته فإن كوشنير حمَّل العرب مسؤوليةَ ما سقطَ من دماءٍ لأنهم من الأساس رفضوا الاعتراف بإسرائيل منذُ العام 1948، ما أضاع على شعوبهم الرخاء الاقتصادي والأمن والأمان، كل هذا كان يجري دون أن يجرؤ الإعلامي المستضيف على المقاطعة أو التصحيح، بل على العكس بدا في الكثير من الأحيان مؤيداً للكثير من المغالطات التي نطق بها عرّاب الصفقة.
كذلك الأمر كان لافتاً أن المقابلة أريدَ لها أن تكون مسجلة وغير مباشرة لكي تخضع لإمكانيةِ الحذف والتعديل وهو فعلياً ما حدث، فاجتزاء الأجوبة بدا واضحاً في أكثر من مثالٍ، هل حقاً أن الإيرانيين يدعون لقتلِ الإماراتيين كما يهذي كوشنير، فيما العلاقة بين البلدين على أفضل ما يرام؟! لكن أهم مثالٍ على هذا القص والاجتزاء بدا بالسؤال المتعلق حول دور القيادة المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي تحديداً في الصفقة، فقد تم طرح هذا السؤال كما بعض الأسئلة الأخرى باللغة العربية، ربما أرادت القيادة المصرية نوعاً من التسويق للسيسي أمام الشريحة الأكبر من الذين قد لا يتمكنون حتى من قراءةِ الترجمة، لكن حساب الحقل لم يُطابق حساب البيدر، فالمقابلة المتوفرة حتى على موقع القناة تم فيها قَص واجتزاء جواب كوشنير الذي كان يستطرد فيه بالحديث عن الدور الكبير للسيسي في الصفقة، وهو ما كانت مصر تنفيهِ بشكلٍ دائم إن كان لجهةِ تدخلها أو حتى علمها بالصفقة من أساسه.
حال التخبطِ هذا قد يعكس لنا عملياً ما تعانيهِ باقي الدول والمشيخات المتورطة في الصفقة، لكنها في الوقت ذاته تعكس الطريقة الجديدة التي يريد فيها الأميركي التعاطي مع حلفائِه، إما معنا في العلن أو لا.
ختاماً، من غير المنطقي أن يطرح إعلامي في مقابلةٍ ما السؤال الأخير، ليعود بعدها ويطرح عدداً كبيراً من الأسئلة تتعلق جميعها بدور السلطة الفلسطينية الحالية، وهي أسئلة مكنت كوشنير من تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية ما يجري واصفاً رفضها للصفقات بأنه يستند لفرضية أن بقاء الوضع على ما هو عليه يدر عليهم مالاً أكثر، والسؤال المنطقي هنا: هل تمت إضافة هذهِ الأسئلة ليتمكن كوشنير من تحقيق ما يناسب السياسة الأميركية وتوجهاتها؟ ربما، بل إنه لم يترك للباقين إلا الصراعَ على من يقدِّم فروض الطاعة، تحديداً بين الذراعين الإعلاميين اللذين يخدما الأميركي في المنطقة، أي القطري والسعودي، تخيلوا مثلاً أن الإعلام الممول قطرياً والذي يفتح منابره حتى للناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال لتبرير جرائمه، نسي الصفقة وبدأ يهاجم الإعلام الممول سعودياً لأنه ببساطة يستضيف من يروج للصفقة!
ثانياً: في المضمون، مبدئياً سواء اختلفنا أم اتفقنا مع ما يمثلهُ كوشنير، علينا أن نعترف أن الطلاقة التي كان يتحدث بها والإلمام حتى بأدق التفاصيل حول ما يسمونهُ الصراع في الشرق الأوسط شكل مفاجأة قد تقودنا لبدهية أن اختيار كوشنير لفكرة البقاء في الظل طوال السنوات الماضية، والخروج إلى العلن في ملفٍّ شائك وحساس كالصراع العربي الإسرائيلي قد يحمل أبعاداً لها معنى حول ما يرمي إليه. بدا كوشنير كمن يقدم نفسهُ مرشحاً محتملاً للرئاسة الأميركية بعد أربع سنوات، القضية ليست مرتبطة فقط بمرجعيته اليهودية، فهو يستنِد إلى الخدمات الجلية التي قدمها والد زوجته لإسرائيل، بل يمكننا القول إنه ما من رئيسٍ أميركي قدم لإسرائيل ما قدمه دونالد ترامب، هذه الخدمات فيما يبدو شكلت طوَّق النجاة لترامب، وبمعنى آخر: قبل الإعلان عن صفقة القرن، كان هناك صفقة أخرى أدت إلى لفلفةِ قضية محاكمة ترامب في الكونغرس، ولعل فارق الأصوات الضئيل وغير المتوقع هو إثبات على أن صفقة ما قد تمت، لكن هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن الصفقة هي ثمن البراءة، لأن الحديث عن هذه الصفقة عمره سنوات.
بالوقت ذاته، فإن كوشنير يستند لشبكة العلاقات القوية التي يبنيها مع أثرياء النفط في هذا الشرقِ البائس، تحديداً أولئك الذين ينتمون لجيلِ الشباب ويرى فيهم ما يمكن تسميته عكازَ انطلاقتهِ السياسية والاقتصادية المستقبلية، فمن الواضح أن الصفقة تبدو فيما تبدو كأنها نوع من مبادلةِ الرخاء الاقتصادي بالحقوق والأمن والتطبيع، أو بالحد الأدنى هناك سعي أميركي لاستنساخ التجربة التركية في العلاقة مع إسرائيل، فالإمّعة التركي رجب طيب أردوغان يهاجم إسرائيل ليل نهار، ويعد قطيعهُ بالصلاة في القدس ومع ذلك فالسفارة الإسرائيلية تتوسط اسطنبول، وإسرائيل هي من أفضل عشر شركاء تجاريين لتركيا!
على هذا الأساس بدا كوشنير وكأنه متأكد من أن الصفقة ستتم لأن أغلبية الدول العربية موافقة عليها، ربما هو صادق في ذلك فجواز عبور الدول لتجاوز العقوبات بات العلاقة مع إسرائيل، بدأها السوداني والسُبحة لا يبدو أنها ستنتهي، لكن أخطر ما قاله كوشنير بأن هناك ضرورة لاستبدال القيادة الفلسطينية الحالية بقيادةٍ أخرى وصفها بالشجاعة والقادرة على عقدِ الصفقات، فهل يعني هذا الكلام أن البديل جاهز؟
ربما هو كذلك، لكن حتى يبين الخيط الأبيض من الأسود إياكم أن تتعاطوا مع ما يجري بالخطابات والشعارات، فالواقع العربي تبدل وتغير، والمفردات ما عادت تلك التي تربينا عليها حتى بين الفلسطينيين أنفسهم، فكوشنير استشهدَ بالحكمة القائلة بأنه «من الخطأ تكرار الأمر بالطريقة ذاتها وتوقع نجاحهِ»، نبدو كأننا معنيون بهذه الرسالة، لا تكرروا الطريقة البكائية ذاتها بالوقوف بوجه ما يجري، وتذكروا أن من استنسخ ناطقين باسم الشعب السوري أو العراقي أو اليمني قادر أن يأتيِ بمن يوقّع باسم الشعب الفلسطيني، على هذا الأساس لا يبدو فعلياً أننا أمام صفقةِ قرن تتعلق بالفلسطينيين، هم يتحدثون عن صفقةٍ.. لعشرات القرون.