خطة الهجوم لوقف التراجع الاستراتيجي للنفوذ الأميركي في المنطقة

خطة الهجوم لوقف التراجع الاستراتيجي للنفوذ الأميركي في المنطقة

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٧ يناير ٢٠٢٠

دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الصراع مع المشروع الاستعماري الأميركي، الذي يسعى تكتيكياً، تحت سقف الهزيمة الاستراتيجية التي مُني بها في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وفي المواجهة مع إيران، واستطراداً على الصعيد الدولي، لإحداث تحوّلات سياسية في بعض الدول العربية التي لم يطلها «الربيع العربي». يستخدم هذا الهجوم السلاح الاقتصادي وسيلة لتغيير المعادلات السياسية في كلّ من لبنان والعراق والسودان والجزائر، مستغلّاً الثغرات ونقاط الضعف في هذه الدول والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. غير أن التركيز الأميركي حالياً ينصبّ على لبنان والعراق، لما يشكلانه من موقع جغرافي مهم ومفصلي في الاستراتيجية الأميركية، التي تركز على حماية المصالح الاستعمارية في منابع النفط والغاز وأمن الكيان الصهيوني.
 
أما نجاح هذا الهجوم، فمرتبط بالقدرة على إحداث انقلاب في المعادلة السياسية القائمة في هذين البلدين.
 
أولاً، سلاح الضغط الاقتصادي ورقة واشنطن الأخيرة لتعويم المشروع الأميركي
بعد فشل الحروب الأميركية العسكرية المباشرة، والحروب الإرهابية بالوكالة، في تحقيق أهدافها في القضاء على محور المقاومة، وإخضاع المنطقة بالكامل للسيطرة الأميركية، قرّرت دوائر صنع القرار في واشنطن، وبناء على دراسات أعدتها مراكز الأبحاث، وضع خطة بديلة لإنقاذ مشروع الهيمنة من مخاطر الانهيار. أخذت هذه الخطة في الاعتبار الدروس والعبر من حروب أميركا و«الربيع العربي»، وهي تعتمد أساليب الحرب الناعمة التي تُستخدم فيها أسلحة الإعلام والمال والاقتصاد، عبر فرض وتشديد الحصار الاقتصادي والمالي على الدول المطلوب إضعاف مناعتها الداخلية، والعمل على خلق الظروف التي تساعد القوى والجماعات التابعة لواشنطن، في إحداث انقلاب سياسي لمصلحتها. وعندما تفجّرت الانتفاضة الشعبية في العراق، ومن ثم في لبنان، وجدت واشنطن الفرصة المواتية لاقتناصها، فعملت على ركوب موجة التظاهرات والاحتجاجات.
في هذا السياق، ركّزت واشنطن على التالي:
1 ــ في لبنان: استغلال الانتفاضة الشعبية العفوية لإحداث الانقلاب السياسي، وذلك عبر الضغط «لتأليف حكومة تكنوقراط من المستقلّين، وإجراء انتخابات مبكرة، الشرطان الأساسيان لحصول لبنان على أي مساعدة مالية» خارجية، وربط تقديم المساعدات بشكل تعاقبي عند تحقيق إنجازات إصلاحية ووضع قانون انتخابات. إضافة إلى ذلك، عمدت واشنطن إلى فرض عقوبات على حلفاء حزب الله، وتوجيه رسالة دعم للشعب اللبناني ولوزراء الحكومة المستقبلية، مفادها أن الفساد والتحالف مع حزب الله أمران لن يتمّ التسامح معهما، وهذا من شأنه أن يعيق أيضاً حزب الله سياسياً، لأنّ غياب هؤلاء الحلفاء سيتيح احتواء سلطة الحزب داخل مؤسسات الدولة.
من جهة أخرى، كان هناك سعي لإعادة الروح إلى قوى 14 آذار ومساعدتها في استعادة وحدتها، لقيادة الاحتجاجات من خلف الستار، وذلك بهدف تطويق المقاومة، وهو الهدف الذي تحدث عنه بوضوح كل من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، إثر اجتماعهما بتاريخ 5/12/2018. ولا يتوقّف الضغط الأميركي هنا، إذ كان هناك لجوء إلى استخدام الدعم المالي الذي تقدمه واشنطن للجيش اللبناني، والبالغ 105 ملايين دولار، لإثارة التناقضات في صفوفه، بالقول إن هناك وحدات عسكرية تتعامل مع حزب الله والحرس الجمهوري، يجب حرمانها من هذا الدعم. إلا أن واشنطن تراجعت، لاحقاً، عن قرارها تعليق هذه المساعدات المالية، وقرّرت الإفراج عنها بعد توصية جيفري فيلتمان، الذي لفت النظر إلى أهمية استمرار هذه المساعدات لتعزيز النفوذ الأميركي في لبنان.
2ـ في العراق: إن الخطة الأميركية الهادفة إلى إعادة إخضاع هذا البلد، والاستيلاء على نفطه وإحكام الحصار الاقتصادي على كل من سوريا وإيران، عبر إعادة إغلاق معبر البوكمال ــ القائم، تعتمد الشعارات السياسية نفسها التي تُرفع في لبنان، وتعمل على محاولة استغلال الانتفاضة الشعبية لفرض تشكيل حكومة انتقالية، بعدما نجحت في دفع حكومة عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، بهدف إجراء انتخابات مبكرة على أساس قانون جديد، وفي ظلّ إشراف ومراقبة دولية. كلّ ذلك لأجل إحداث تحوّل في ميزان القوى في البرلمان، ومن ثم في الحكومة، لمصلحة القوى التي تدور في فلك السياسة الأميركية. ولتحقيق هذا الهدف، جرى دفع بعض القوى والجماعات من أجل إثارة الفوضى، لإظهار العراق «كدولة تفشل ببطء» وعاجزة عن حل مشكلات البطالة والخدمات. هذا إلى جانب تحميل مسؤولية الأزمة إلى قوات «الحشد الشعبي» بزعم أنها تهيمن على الدولة، على غرار اتهام حزب الله في لبنان.
ومن الواضح أن الخطة تتوسّل خوض هذه الحرب الناعمة، بالوسائل الاقتصادية والمالية والإعلامية والجماعات المرتبطة بها، لأن واشنطن:
أــ لا تريد التورّط مباشرة في الأحداث، حتى لا تحتاج إلى «سفك دماء أميركية، وإلى تدفّقات نقدية من الولايات المتحدة».
ب ـ تثبيت وجود القواعد الأميركية العسكرية في العراق إلى جانب الدور الكبير السياسي والأمني للسفارة الأميركية في بغداد، حيث تزداد أهمية العراق كقاعدة أساسية في الاستراتيجية الأميركية للحدّ من تنامي قوة محور المقاومة، ووقف التراجع الاستراتيجي لنفوذ واشنطن، خصوصاً بعدما «أصبحت أساسات الوجود الأميركي في سوريا متزعزعة باستمرار».
انطلاقاً ممّا تقدّم، تدعو الخطة القوى والجماعات الموالية لواشنطن إلى التركيز على ما يلي:
* اعتماد «التغيير التدرّجي المنظّم، الذي يشمل العمليات الدستورية والقانونية لأن المؤسّستين العراقيتين، السياسية والدينية، تمقتان الفوضى، وتتخوفان منها أكثر من أي شيء»، وإذا كان أي شيء سيؤدي إلى «الاتحاد على نطاق النظام للدفاع عن مصلحة مشتركة تصبّ في صالح إيران، فهو خطر الفوضى الخلّاقة غير الواضحة».
*«إذا استمرّت الاحتجاجات في افتقارها إلى قيادة، ستنزلق على الأرجح باتجاه الاستمرار في العصيان المدني، وفقدان شرعية مؤسسات الدولة كافة والمؤسسات الدينية بشكل كامل». ولهذا، يجب التشجيع على ظهور «وجه حكيم وصوت ينطق باسم المحتجّين، قد ينتمي إلى كلية جامعية أو إلى المجتمع المدني».
*«يجب أن يكون التغيير بعيداً عن العنف وسفك الدماء قدر الإمكان، ذلك أن التخريب والتدمير سيزعزع جزءاً من الرقي الأخلاقي للاحتجاجات، وسيتداعى الدعم الآتي من التيار الديني الشيعي والمجتمع الدولي». وينطلق هذا التوجه من الخوف من أن يقود ذلك إلى تهديد مرتكزات النفوذ الأميركي.
 
كان هناك سعي لإعادة الروح إلى قوى 14 آذار ومساعدتها في استعادة وحدتها لقيادة الاحتجاجات من خلف الستار
 
*«دعم الانتخابات العادلة التي قد تحصل عام 2020 أو 2022، على ألا تتّبع الولايات المتحدة مهلاً زمنية عشوائية، بل يجب أن تساعد الفرصة الأساسية للقانون الانتخابي الجديد، وقانون الأحزاب السياسية الجديد، والمراقبة الدولية الفعالة للانتخابات المقبلة».
*«دعم الجهد الدولي، لمنع حملة القمع ضد الاحتجاجات ومعاقبتها، والسعي إلى تحقيق العدالة للعراقيين المقتولين والمختفين والمعذبين».
أما الأدوات المتوفرة في أيدي الولايات المتحدة لتنفيذ هذه الخطة، فتستند إلى «نفوذ أميركي غير عادي، منذ عام 2003، شقّ طريقه تدريجياً نحو نشوء علاقة طبيعية أكثر». ولكن الآن «مالت الدفة إلى الطرف النقيض، في ظلّ تمتّع إيران بسيطرة لا نظير لها، لذا لم تعد واشنطن مضطرة إلى الدفاع عن جميع عثرات النخبة السياسية المتصدّعة، من دون التمتع بمنافع حقيقية». بالتالي، بات عليها أن «تتعلم كيفية لعب لعبة مختلفة في العراق، وهي لعبة يمكن أن تفرض تكاليف ملحوظة على إيران، وتبني علاقة طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والعراق».
 
ثانياً، أسلحة أميركا لاستغلال الاحتجاجات
تملك الولايات المتحدة أربعة أسلحة أساسية، هي: أسلحة الاقتصاد، والمال، والإعلام، والقوى والجماعات المنظّمة التي تدور في فلكها. وهي عناصر الحرب الناعمة التي تعتمدها الإدارات الأميركية المتعاقبة، بدلاً من الحروب العسكرية والإرهابية، بعد فشلها في بلوغ أهدافها. وإلى جانب سلاح الضغط الاقتصادي والمالي، وفرض العقوبات على منظومة قوى المقاومة، يجري استخدام سلاح الإعلام المموّل خليجياً أو أميركياً باعتباره أهم الأسلحة، بعد سلاح الضغط الاقتصادي، لإحداث تحوّل في موقف الرأي العام. وفي السياق، تجدر الإشارة إلى جيفري فيلتمان الذي بدا كأنه قد خصص جزءاً من شهادته في الكونغرس، للتركيز على كيفية إلصاق تهمة الفساد بالمقاومة في لبنان، والاستثمار في بيئتها لتأليب الناس ضدها، في حين ركّزت دراسات أخرى على استحواذ قوات «الحشد الشعبي» في العراق، على جزء كبير من موازنة الدولة العراقية. فضلاً عن ذلك، يجري التركيز على مجموعات من الناشطين، جرى تدريبهم على قيادة التظاهرات والاحتجاجات، عبر ترداد الشعارات السياسية التي تخدم هذا التوجّه. وإلى جانب هذه الشعارات، يُرفض القبول بتشكيل قيادة تعبّر عن المنتفضين، في مقابل الإصرار على أن الشعب هو القائد، وهو ما يفتح الباب أمام احتمال وجود قيادة غير مُلعن عنها تنفّذ أجندات معيّنة.
وممّا لا شك فيه، أن السياسة الأميركية استفادت من الثغرات الحاصلة على مستوى سوء إدارة الحكم في كلّ من لبنان والعراق، إن كان لناحية المحاصصة الطائفية وتقاسم الامتيازات والمنافع وتفشّي الفساد، أو في ظل حماية الفاسدين، هذا فضلاً عن تردّي الخدمات العامة الأساسية وارتفاع أكلاف المعيشة، وسط انتشار البطالة. كذلك، استفادت السياسة الأميركية من ضعف أداء القوى الوطنية والمقاومة في السلطة السياسية وخارجها، وإهمالها للنضال الجماهيري المطلبي الهادف إلى تحسين الواقع الاقتصادي والخدماتي والمعيشي للناس.
 
ثالثاً، سبل مواجهة مشروع الانقلاب الأميركي
إنّ مواجهة مشروع الانقلاب الأميركي، وإحباط أهدافه، تبدأ من نقطة أساسية وهي الانتقال من حالة الدفاع السلبي إلى حالة الدفاع الإيجابي، ذلك أن بقاء القوى الوطنية التحرّرية المقاوِمة في الحالة الأولى، يشجّع واشنطن والعدو الصهيوني والقوى الرجعية على استئناف هجماتها بوسائل جديدة ومختلفة. لذا، تتمحور هذه الخطوة في الانتقال إلى الدفاع الإيجابي على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والجماهيرية الكفاحية والإعلامية، وعدم الاعتماد فقط على موازين القوى القائمة حالياً. فالمعركة الآن، على كسب الرأي العام لتحرير العراق من الهيمنة الأميركية بكل أشكالها، الأمر الذي يتطلّب:
1ـ فرض رحيل القوات الأميركية والغربية، ورفض أي مماطلة أو مناورة لإبقاء هذه القوات تحت أي عناوين. وبالتالي، البدء بالمقاومة المسلّحة لإجبارها على ذلك، إذا اقتضى الأمر، لا سيما بعدما أصبحت فاقدة الشرعية القانونية لوجودها في العراق، حيث ارتكبت العدوان السافر على السيادة وقصفت مواقع قوات «الحشد الشعبي»، ثم اغتالت القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
2ـ خوض النضال الجماهيري، وقيادة النضالات الشعبية المطلبية المُحقة والعادلة، أي أن تتحوّل القوى الوطنية المقاوِمة إلى رأس حربة في معركة محاربة الفساد، واسترداد أموال الدولة وحقوقها المنهوبة، وحماية المال العام، والعمل على توفير المستلزمات الأساسية الحياتية للمواطنين من خدمات أساسية وضمان شيخوخة وفرص عمل...
3ـ قيادة مسار النضال لفرض تغيير النظام الاقتصادي القائم على النموذج الريعي التابع للنظام الرأسمالي الغربي ومؤسساته المالية، التي يستخدمها وسيلة للسيطرة على الدول وقراراتها. فهذا النظام هو السبب في إنتاج وتناسل الأزمات التي تصيب لبنان والعراق. بالتالي، فإنّ المطلوب هو اعتماد نظام اقتصادي إنتاجي قادر على قلب المعادلة الاقتصادية، بهدف رفع معدلات النمو، وتنويع الخيارات الاقتصادية، عبر تعزيز العلاقات التجارية مع الدول الصاعدة اقتصادياً في الشرق، لا سيما الصين وروسيا وإيران. ويتطلّب هذا التوجه، رفض الإملاءات الأميركية التي تعيق اتّجاه العراق ولبنان شرقاً.
في النهاية، يمكن القول إن النضال من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لا ينفصل، بل هو مكمّل للنضال الوطني التحرّري ضد الاحتلال والاستعمار، وضد كلّ أشكال الفساد والفاسدين الذين هم الأكثر استعداداً للتعامل مع الأجنبي وخيانة الوطن والتآمر على قواه المقاومة.