المفاهيم السياسية الإمبريالية.. بقلم:  جوزيف مسعد

المفاهيم السياسية الإمبريالية.. بقلم: جوزيف مسعد

تحليل وآراء

الخميس، ١٦ يناير ٢٠٢٠

ضاعفت الولايات المتحدة جهودها، منذ الثمانينيات، إبّان بدء التوسّع النيوليبرالي في عهد رونالد ريغان، لاحتواء الكرة الأرضية بمجملها، لتغيير المفاهيم السياسية الرئيسة التي نظّر لها واستخدمها اليسار العالمي ضدّ السلطة الكونية للولايات المتّحدة. وكان الهدف من ذلك، إعادة تشكيل الثقافة السياسية العالمية، كما كان قد أُنجز بنجاح داخل الولايات المتّحدة، لكن ليس بالمستوى ذاته في خارجها. فبينما كان هذا المشروع يتقدّم باطّراد داخل الولايات المتحدة، منذ فجر الحرب الباردة في أواخر أربعينيات القرن العشرين، إلّا أن آثاره بقيت هامشية على باقي العالم (باستثناء بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وإن كان التأثير على الأخيرة أقل حدّة) خارج نطاق الشعب الأميركي الذي كان قد تمّ غسل دماغه. أما في الثمانينيات، فقد سعى المشروع لتعزيز جهوده لفرض هذه الثقافة السياسية الجديدة على الصعيد العالمي، لا سيما بعد تراجع وسقوط الاتّحاد السوفيتي.
وقد اتّبع هذا المشروع التحويلي استراتيّجيتين: اتّسمت الأولى بإفراغ المفاهيم من خصوصيتها ومعانيها النظرية كي يتمّ فصلها وفكّ ارتباطها عن السياسات الأميركية، ومن ثم إعادة تطبيقها بشكل عام على نطاق عالمي. يبرز هنا مفهوم جورج أورويل عن «اللغة الجديدة» أو «نيوسبيك». فلنأخذ المثال الرئيس للمفهوم الماركسي للإمبريالية المرتبط مركزياً منذ القرن الثامن عشر بالرأسمالية والدول الرأسمالية الصناعية، في سعيها للربح عبر نهب موارد الدول الأخرى بينما تهيمن عليها اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً.
فبحلول الثمانينيات والتسعينيات، غدا بعض المعلّقين القوميين الأميركيين (وأغلبية المعلّقين والأكاديميين الأميركيين، بمن فيهم المعلّقون اليساريون، أكثر قومية من الأكاديميين في أيّ بلد آخر في العالم)، يعترفون بأن بلدهم قد يكون إمبريالياً، لكنهم استمروا في تطبيق المفهوم في المقام الأول على الاتّحاد السوفيتي، والتي كان ريغان يشير إليه، كما كان يفعل أيضاً نعوم تشومسكي، باسم «إمبراطورية الشر». ونتيجة هذا الخلط المتعمّد بين مفهوم «الإمبريالية» و«هيمنة» دولة على دولة أخرى، تمّ في الآونة الأخيرة توجيه اتّهامات أميركية بالإمبريالية إلى روسيا والصين أو حتى إيران! رغم ذلك، يعبّر أكاديميون أميركيون عن قلقهم من قيام دونالد ترامب بتغيير معاني المصطلحات الليبرالية، غير آبهين بالمشروع الأميركي الأوسع منذ الأربعينيات.
أمّا حقيقة أنه كان لدى جميع حلفاء الاتحاد السوفيتي في أوروبا الشرقية، خلال الحقبة السوفيتية، معدّل دخل الفرد ذاته، أو حتى دخلاً أعلى من دخل الفرد السوفيتي، وكانوا في كثير من الأحيان مدعومين اقتصادياً من السوفييت الذين قاموا باستيراد سلعهم الصناعية، وبتصدير المواد الخام إليهم بخلاف نمط العلاقات الإمبريالية، فإن ذلك لم يبدّد تلك الاتّهامات الخبيثة والجاهلة. في الواقع، لطالما تحدّث جنود الحرب الباردة الغربيون قبل وبعد ريغان، عن إخضاع جمهوريات لاتفيا وليتوانيا وإستونيا إمبريالياً بعد ضمّها إلى الاتّحاد السوفيتي، في عام ١٩٤٠، على الرغم من أن الجمهوريات السوفيتية الثلاث كانت حتى انهيار الاتّحاد السوفيتي، تتمتّع بنصيب أعلى من دخل الفرد من باقي الجمهوريات السوفيتية الأخرى. فإذا كانت البلدان الواقعة تحت نير الإمبريالية الأميركية، والتي يشكّل دخل الفرد فيها نسبة ضئيلة للغاية من معدّل دخل الفرد في الولايات المتّحدة، ستشهد ارتفاعاً في دخلها إلى ما يماثل دخل الفرد في الولايات المتحدة أو أعلى منه، يمكن للمرء عندئذ أن يتحدث عن التكافؤ بين «إمبريالية» السوفييت المزعومة والإمبريالية الأميركية الحقيقية والفعلية حول العالم. أما الترويج لأمثلة كدولة الكويت أو سنغافورة ذات معدلات الدخل العالية لمواطنيها (والتي تحرم منها الأعداد الكبيرة من العمّال الأجانب في كلا البلدين)، فذلك لا يثبت العكس.
تشمل المفاهيم اليسارية المركزية الأخرى منذ الثورة الفرنسية مفهوم «الديموقراطية». وتتكلّم الولايات المتحدة ومثقفوها القوميون بلا خجل عن الولايات المتحدة، وكأنها دولة ديموقراطية منذ تأسيسها في عام ١٧٧٦. ويبدو أن قرنين من النهب الاستعماري والإبادة الجماعية الجسدية والثقافية للأميركيين الأصليين أو الهنود الحمر (الذين لم يتمّ اعتبارهم مواطنين حتى عام ١٩٢٤، ولم يتمكنوا من التصويت إلا بعد عام ١٩٤٨)، وقرن من العبودية يتبعه قرن من الفصل العنصري، وقرن ونصف من حرمان النساء من حق الاقتراع، ليست ممّا يمكنه التأثير على هذا التعريف.
في حين كانت الولايات المتحدة في الواقع ليست أكثر من «ديموقراطية الأسياد البيض والذكور» في تلك الفترة، فليس هذا هو ما تعنيه كلمة «ديموقراطية» لبقية العالم، ناهيك عن بقية الشعب الأميركي المستبعد من هذه «الديموقراطية» المذكورة. صحيح أنه في فترة ما بين عامي ١٩٦٥ و ٢٠٠١، يمكن للمرء أن يصف الولايات المتحدة بأنها كانت «ديموقراطية» عنصرية وجنسوية معتدلة في مستوى قمعها السياسي، لكنّها عادت إلى كونها «ديموقراطية» عنصرية أكثر قمعية منذ ذلك الحين.
تتكلّم الولايات المتحدة ومثقفوها القوميون بلا خجل عن الولايات المتحدة، وكأنها دولة ديموقراطية منذ تأسيسها في عام ١٧٧٦
 
ومع ذلك، فإنّ مستوى التطرّف في القومية الأميركية وصل إلى حد أن يتحدث كل من باراك أوباما وهيلاري كلينتون بإعجاب عن «آبائنا المؤسسين» و«بأننا أقدم ديموقراطية في العالم»، «ديموقراطية» استبعدت كليهما بحكم الواقع. ولفهم المفارقة في أقوالهما، لك أن تتخيّل أن يعلن نيلسون مانديلا بأن مؤسسي جنوب أفريقيا العنصريين، في عام ١٩١٠، أو مؤسسي نظامها للفصل العنصري، في عام ١٩٤٨، هم الآباء المؤسسون للديموقراطية في جنوب أفريقيا، والتي «تطوّرت» لتشمل السود بعد عام ١٩٩٤!
أما الخطابان، الأميركي والأوروبي، اللذان لا ينفكّان يصفان البيض الأوروبيين والأميركيين، الذين قتلوا عشرات الملايين من الناس واستعبدوا عشرات الملايين غيرهم وقاموا بتعذيبهم بأشد الطرق وحشية، بأنهم «متحضّرون»، فيما يصفان الشعوب التي تم استعبادها واضطهادها حول العالم والتي تناضل من أجل التحرر بــ«البرابرة»، فهما جزء لا يتجزأ من المشروع الأميركي. في واقع الأمر، لقد تمّ إفراغ مصطلحات كالعنصرية ــ التي، شأنها شأن الإمبريالية كانت مرتبطة بالقوة والسلطة السياسية والاقتصادية لأوروبا الغربية والولايات المتحدة ــ من معانيها وتطبيقها بشكل عام على باقي العالم. ففجأة، إذا كان لشخص غير أبيض وجهات نظر مسيئة للأوروبيين والأميركيين البيض، يوصم هذا الشخص بالــ«عنصرية». لكن مفهوم العنصرية الأوروبية والأميركية البيضاء، لا يرتبط فقط بالثقافة العنصرية المرعبة والمنتشرة على نطاق واسع في هذه المجتمعات، بل بمأسسة هذا التحيّز ورسوخه في المؤسسات السياسية والاقتصادية للسلطة التي تحرم الناس من الحقوق المتساوية بناءً على التحيّز العنصري، بما في ذلك الحق في العمل والسكن والتعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الاجتماعية، والتمييز ضدهم في القانون وإخضاعهم لقمع شُرطي صارم، وما إلى ذلك. ولكن ليس هنالك دولة أو شعب غير أبيض لديه القدرة على قمع البيض كمجموعة أو كشعب، حتى وإن تبنّوا آراء متحيّزة ضد البيض. ففي حين كانت إدانة العنصرية دائماً مرتبطة أساساً بمؤسسات السلطة، فإنّ المعنى الإمبريالي والنيوليبرالي الجديد للعنصرية قد حوّلها إلى مجرّد تحيّز شخصي لا أكثر.
في الواقع، وفي السياق ذاته، منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأ مثقفون عرب وإسرائيليون وغربيون (بما في ذلك صادق جلال العظم، وفواز طرابلسي، وأفيشاي مارغاليت، وإيان بوروما، وغيرهم) يتحدثون عن «الاستغراب» على أنه نقيض «الاستشراق»، كما لو أن ثمّة دولة عربية واحدة لديها مؤسسات قوية مغروسة بكراهية الغرب تستخدمها لقمع جميع الأوروبيين بالطريقة نفسها التي رسخت فيها الإمبريالية الأوروبية منظومة الاستشراق في سياساتها الاستعمارية والإمبريالية في العالمين العربي والإسلامي (بما في ذلك الهند) المستعمَرين. ففي طرحهم بأن «الاستغراب» هو مؤشّر على التحامل ضد الغربيين، يفترض هؤلاء المثقفون بأن الاستشراق ليس منظومة معرفية راسخة في المؤسسات الإمبريالية المتسلّطة التي قام إدوارد سعيد بدراستها في كتابه الكلاسيكي عن الموضوع، ولكن بأنها مجرّد تحيّز فردي لا أكثر ليس له علاقة بالسلطة على الإطلاق.
وقد كانت الاستراتيجية الأميركية الثانية، هي تحويل المفاهيم اليسارية السابقة، والتي كانت تُستخدم لإدانة السياسات الأميركية ضد اليسار نفسه، من خلال تبنّيها كمبادئ رسمية للولايات المتحدة. ويشمل ذلك دعم «المجتمع المدني» و«النشاط السياسي» في العالم الثالث، و«فعالية» الأقليات العرقية والنساء داخل وخارج الولايات المتحدة، و«الثورات»، والحكومات «الشرعية» ومعارضة الاحتلال «الأجنبي»، ما لم يكن الجيش الأميركي أو الإسرائيلي هو من يقوم به.
منذ الثمانينيات، تمّ تحويل الآلاف من المنظمات غير الحكومية المحلية التي تموّلها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، والتي تخضع لأجندة مموليها السياسية، إلى «المجتمع المدني» المحلّي، ويتم تصوير موظفيها الذين يحصلون على رواتب خيالية على أنهم ليسوا أكثر من «نُشطاء» سياسيين محليين. إضافة إلى ذلك، فقد بدأ الحديث عن «فعالية» المضطهَدين وتقديمه بشكل متزايد دفاعاً عن أولئك الذين يتبنّون الأفكار الإمبريالية والعنصرية ضد شعوبهم، والذين تختارهم الولايات المتحدة كمتحدثين باسم شعوبهم. وهكذا، فمن ناحية، فإنّ إدانة الداعية اللبناني المناهض للعرب والمساند للإمبريالية فؤاد عجمي تعتبر إنكاراً لفعاليته، كما أن التنديد بالقاضي الأميركي الأسود في المحكمة العليا الأميركية كلارنس توماس، الذي يتبنّى الآراء العنصرية النيوليبرالية ضد السود، يحرمه من فعاليته، وهلم جرّا وهكذا دواليك.
ومن ناحية أخرى، بحسب العديد من موظّفي المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق الإنسان في العالم الثالث، الذين يتم تقديمهم على أنهم «نشطاء»، يجب أن تُنسب الفعالية إلى أولئك الذين يدّعون أنهم يقاومون المؤسسات والسلطة السياسية المحلية، والذين يتمّ دعمهم في مساعيهم من قِبل المنظمات غير الحكومية الغربية دون غيرهم، بينما يَعتَبِرون اتّهام أولئك الذين يتعاونون مع المؤسسات الإمبريالية والمنظمات غير الحكومية بالتواطؤ والتعاون مع الإمبريالية، بأنه عبارة عن «حرمانهم» من الفعالية، في حين أن اتّهام هؤلاء بالتواطؤ هو في الواقع اعتراف وإقرار بفعّاليتهم كمتعاونين. وفي الوقت نفسه، يتم إنكار فعّالية أولئك الذين يقاومون الإمبريالية الأميركية في بلادهم بشكل روتيني مِن قبل «النشطاء» المتحيزين للغرب، والذين يصفونهم بأنهم مجرّد «عملاء» لــ«إمبريالية» روسية أو صينية أو إيرانية مزعومة.
أصبح هذا الخطاب في الصحافة العربية والإعلام التلفزيوني ــ المملوكة حصرياً تقريباً لهذا النظام أو الأمير الخليجي أو ذاك ــ هو المسيطر. ويُفتح باب جهنم على من تسوّل له نفسه التشكيك في المعاني المهيمنة الجديدة وتلصق به جميع أنواع الاتّهامات وتُكال له أقذع الشتائم، خصوصاً من قِبل مجنّدي الثقافة الإمبريالية الجديدة على وسائل التواصل الاجتماعي.
أما بالنسبة إلى خطاب «الشرعية»، فنجد مثلاً قادة انقلاب «فَتْح» في السلطة الفلسطينية، الذين استولوا على الضفة الغربية في عام ٢٠٠٧، وأزاحوا «حماس» المنتخبة من الحكومة، على أنها الجهة «الشرعية»، بينما «حماس» التي دافعت عن حكومتها المنتخبة في غزة ضد قادة الانقلاب غير الشرعيين يتم تصويرها بأنها «استولت» على غزة من الحكومة «الشرعية» للسلطة الفلسطينية. وهكذا أيضاً، يصبح البلطجي الفنزويلي شبه المجهول خوان غوايدو الزعيم «الشرعي» لفنزويلا، بينما يصبح القادة المنتخَبون الفعليون للبلاد «غير شرعيين»، كما يصبح الرئيس البوليفي المنتخب، إيفو موراليس، غير شرعي، في حين أن قادة الانقلاب المجرمين المدعومين من الولايات المتحدة الذين طردوه من السلطة يصبحون الحكام الشرعيين.
تتضمّن استراتيجية تحويل معنى المفاهيم السياسية وتخريب الثقافة السياسية العالمية، عموماً، مصطلحات مثل مصطلح «ثورة»، الذي يعزى إلى أي تظاهرات جماهيرية ضد حكومة تستعديها الولايات المتحدة، ومصطلح «الإرهاب»، الذي يصف أيّ عمل يقوم به مسلمون يستهدف المصالح الأميركية، عسكرية كانت أم مدنية، ولكن ليس عندما يرتكب أبيض أعمالاً مماثلة، ومصطلح «الأيديولوجيا» حيث يتّهم أي شخص ينتقد السياسة الإمبريالية الأميركية والغربية بالـ«أيديولوجيّة»، في حين يوصف أولئك الذين يدعمونها بـ«الموضوعيين» و«العقلانيين» و«البراغماتيين» و«المعتدلين».
يمكن قياس نجاح هذا المشروع الأميركي بعدد المثقفين المتحوّلين من اليسار القديم إلى اليسار الجديد، داخل الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم، والذين يستخدمون اليوم هذه المعاني التي تفرضها الولايات المتحدة، ويصرّون في الوقت نفسه على وصف أنفسهم بأنهم «يساريون». فمصطلح «اليسار» هو المصطلح الذي خضع لأكبر عملية تحوّل في المشروع الأميركي. فاليوم، يشير مصطلح «يساري» إلى كلّ من يناصر المعاني الأميركية الجديدة لهذه المجموعة القديمة من المفردات اليسارية القديمة، في حين تتمّ إدانة أولئك الذين ما زالوا يصرّون على فضح هذا المشروع الثقافي الأميركي المتسلّط، بأنهم «مناهضون لليسار»، إن لم يكونوا رجعيين تماماً.
أهلًا ومرحباً بكم في النظام الإمبراطوري الجديد!
 
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، صدر له حديثاً كتاب «الإسلام في الليبرالية»، جداول للنشر، بيروت (٢٠١٨) و«آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن»، دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).