ما بعد حلف «الناتو».. بقلم: يوشكا فيشر

ما بعد حلف «الناتو».. بقلم: يوشكا فيشر

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٧ ديسمبر ٢٠١٩

على الرغم من تراجع شعبيته مرّات عديدة، لا يزال حلف «الناتو» صامداً، لكنّ هناك ثعلباً آخر قد دخل حظيرة الدجاج، وقد واجه ردة فعل أوروبية قوية على الخطر: ثرثرة غاضبة وريش متطاير.
إن الثعلب المقصود هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي وصف حلف «الناتو»، أخيراً، بأنه في حالة «موت سريري». لا يحتاج المرء إلى تأييد اختيار الكلمات هذا ــ أو شغف ماكرون الجديد بالحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (الذي كنت أرفضه شخصياً) ــ ليدرك قوة حجّته. يتطلب التغيير العميق في الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، قيام الأوروبيين بإعادة النظر في الافتراضات القديمة بشأن دفاعهم الجماعي. ليست هذه المرة الأولى التي يشهد فيها حلف «الناتو» أيامه الأخيرة. وصل الكثيرون إلى النتيجة ذاتها، قبل عام 2014، عندما لم يكن لدى الحلف الكثير من المهامّ بعد النهاية المُتوقّعة لمهمته في أفغانستان. غير أن ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، والحرب التي تلت ذلك في شرق أوكرانيا، قد بثّا حياة جديدة في حلف «الناتو». ثم تخلّى ترامب عن القيادة الأميركية للنظام الدولي القائم على القواعد، واتّبع سياسة خارجية قومية وحمائية أُحادية الجانب، وذلك بعد قيام إدارته بسحب البساط من تحت أقدام أوروبا. وقد أعلن ترامب أن «حلف شمالي الأطلسي» «على حافّة الانهيار». نتيجة لذلك، يتعيّن على أوروبا الدفاع عن نفسها، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، بعد سنوات طويلة من الاعتماد الاستراتيجي على الولايات المتحدة، فإن أوروبا غير مستعدّة ــ مادياً ونفسياً ــ لمواجهة الوقائع الجيوسياسية الحالية القاسية. ويتجلّى ذلك بشكل واضح في ألمانيا. أصبح مستقبل حلف «الناتو» غير مؤكد أكثر من أي وقت مضى. مباشرة بعد عام 1989، ظنّ الكثيرون أن «التحالف» سيظل قائماً بعد 20 عاماً. ولكن اليوم، لا تصدر الأسئلة بشأن مستقبله فقط من واشنطن العاصمة، ولكن أيضاً من باريس. لم يعد من الممكن اعتبار بقاء «الناتو» أمراً حتمياً، ولا يمكن للأوروبيين انتظار مدة 20 عاماً لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك.
في مواجهة التحوّل القومي الأميركي، وتأكيد حضور الصين المتزايد، فضلاً عن الثورة الرقمية الحالية، ليس أمام أوروبا خيار سوى أن تصبح قوة مستقلة. في هذا الصدد، كان ماكرون مُحقاً. لكن يجب ألا تكون لدى الأوروبيين أوهام بشأن ما سوف يتطلّبه الدفاع الذاتي. بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُعتبر قوة اقتصادية أكثر من كونه قوة عسكرية، فإنه يواجه انفصالاً عميقاً عن الوضع الراهن. لا شكّ في أن حلف «الناتو» لا يزال موجوداً، ولا تزال القوات الأميركية منتشرة في أوروبا. ومع ذلك، فإن المصطلح «لا يزال» كلمة أساسية. واليوم، بعدما أصبحت المؤسسات التقليدية والالتزامات الأمنية عبر المحيط الأطلسي موضع شك، لم يعد السؤال هو ما إذا كان «التحالف» سينهار، ولكن «متى». متى يقرّر ترامب، أخيراً، أن الوقت قد حان لإلغاء «الحلف» بالكامل؟ بالنسبة إلى الأوروبيين، سيكون من الحماقة أن نجلس وننتظر نشر تغريدة «تويتر» لإنهاء مصير «الناتو». يُدرك ماكرون هذا الأمر، في حين تؤيد ألمانيا التزاماتها القديمة بطريقة تقليدية، مع الوعد بزيادة إنفاقها الدفاعي، ولكن من دون تحديد هدف ملموس. يُدرك ماكرون أن انهيار الدفاع الأوروبي بعد انسحاب القوات الأميركية سيكون أشدّ بكثير ممّا يتوقعه الكثيرون. لن يكون ذلك عبارة عن حركة انتقال تدريجية غير ملحوظة، بل سيكون انهياراً مفاجئاً. إذا أرادت أوروبا منع، أو على الأقل، تأخير هذه النتيجة، فسيتعيّن عليها الاستثمار بشكل كبير في جيشها وتطوير قدراتها الخاصة على نطاق واسع. بمعنى آخر، يجب أن تتصرّف كما لو أن الانهيار قد حدث بالفعل. خلال معظم تاريخها الحديث، كان على أوروبا أن تتعامل مع تحديين رئيسيين: مركز مضطرب (ألمانيا) وجناح شرقي غير محميّ (روسيا والصين الآن)، والذي كان دائماً منفتحاً من الناحية الجيوسياسية. منذ تأسيسه، عمل حلف «الناتو» كحلّ لهاتين المشكلتين. عندما ينظر المرء إلى شرق «الناتو» والاتحاد الأوروبي، يواجه مخاوف أمنية متزايدة بين الدول الأعضاء. هذا ليس مفاجئاً، نظراً إلى القرب الجغرافي لهذه البلدان من روسيا، وتاريخها الطويل الذي تعرّض للإمبريالية الروسية، وقد تجلى ذلك أخيراً في ضمّ روسيا المسلّح لشبه جزيرة القرم والحرب في أوكرانيا الشرقية. بالنسبة إلى هذه البلدان ــ بدءاً من بولندا ودول البلطيق ــ يُعدّ دمج أميركا في الدفاع الأوروبي، من خلال «الناتو»، أمراً ضرورياً. نظراً إلى المخاطر الجيوسياسية على الجانب الشرقي لأوروبا، يُوفر حلف «الناتو» شكلاً ضرورياً من أشكال الأمن، ويُعزّز التضامن والوحدة داخل الاتحاد الأوروبي من خلال مطالبة كل عضو بالمساهمة بنصيبه العادل في الصالح العام. إن سياسة ترامب القومية تحت شعار «أميركا أولاً»، قد أجبرت أوروبا فجأة على مواجهة مسألة سيادتها، ما يعني أن تصبح قوة تكنولوجية مستقلة مع القدرة على التصرّف بحزم كجبهة مُوحّدة. لم يكن الاتحاد الأوروبي ليقوم بذلك بمَحض إرادته. مهما كانت نيته، فقد دفع ترامب أوروبا لإعادة اختراع وبناء نفسها. للحفاظ على حلف «الناتو»، يجب على الاتحاد الأوروبي التصرّف كما لو أن «الحلف» قد انتهى بالفعل.
(عن موقع Project Syndicate)