محاسبة الإدارات الأمريكية على سياساتها الخارجية!.. بقلم: د.صبحي غندور

محاسبة الإدارات الأمريكية على سياساتها الخارجية!.. بقلم: د.صبحي غندور

تحليل وآراء

الجمعة، ١٣ ديسمبر ٢٠١٩

يواصل مجلس النواب الأمريكي جلسات لجانه الخاصة في مسألة إمكانية عزل الرئيس ترامب عن منصبه، بسبب ما يعتبره النواب الديمقراطيون استغلالاً من ترامب لموقع الرئاسة من أجل مصالح شخصية وانتخابية، ومن إعاقة لدور الكونغرس بعدما جرى الكشف عن تفاصيل اتصالات ولقاءات قام بها ترامب وأركان في إدارته مع مسؤولين في أوكرانيا بهدف الضغط عليهم لجمع معلومات عن أعمال هانتر بيدن، ابن المرشح الديمقراطي جو بيدن خلال فترة عمله كنائب للرئيس الأمريكي.
فقط ثلاثة رؤساء في الولايات المتحدة تعرضوا في السابق لمحاولات العزل من قبل الكونغرس وفشلت المحاولات مع الرئيس أندرو جونسون (في العام 1868) عقب الحرب الأهلية الأمريكية، ومع الرئيس بيل كلينتون (في العام 1998)، بينما أدت تحقيقات الكونغرس إلى دفع الرئيس ريتشارد نيكسون للاستقالة من منصبه (في العام 1974).
وفي هذه الحالات الثلاث كلّها كانت أسباب محاولات العزل تتعلق بقضايا سياسية داخلية حيث لم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها أي محاسبة دستورية لأي رئيس أمريكي نتيجة سياسة خارجية أو حروب قرّر هذا الرئيس الأمريكي أو ذاك خوضها.
جيمس ماديسون المعروف بأبي الدستور الأمريكي كان الرئيس الرابع في الولايات المتحدة (1809-1817) أعلن الحرب ضد بريطانيا في العام 1812 وقرر الهجوم على المستعمرات البريطانية في كندا فردّت القوات البريطانية بالهجوم على العاصمة واشنطن وأحرقت «البيت الأبيض» ومبنى الكونغرس والكثير من المؤسسات الحكومية ممّا اضطر الرئيس الأمريكي وأركان إدارته إلى الفرار من العاصمة، ولم نشهد بعد ذلك أي محاسبة للرئيس ماديسون على قراره بالحرب على بريطانيا أو على قرار غزوه الأراضي الكندية وإحراق مبانٍ رسمية فيها.
هاري ترومان، الرئيس الأمريكي (1945-1953)، اشتهر بأنه الذي أمر بقصف هيروشيما وناكازاكي بقنبلتين ذريتين لإجبار اليابان على الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، ولم يتعامل الأمريكيون والكونغرس مع هذا الأمر بمثابة جريمة إنسانية.
ليندون جونسون، كان نائباً للرئيس الأمريكي جون كندي وحكم الولايات المتحدة إلى مطلع العام 1969، قرّر زيادة حجم التورط العسكري الأمريكي في حرب فيتنام، على عكس مواقف الرئيس كندي، والتي أدّت هذه الحرب إلى سقوط عشرات الألوف من الجنود الأمريكيين بين قتيل وجريح، ولم تتم محاسبته على ما جرى من خسائر أمريكية في الحرب الفاشلة ضد فيتنام الشمالية.
جورج بوش الإبن (الرئيس الأمريكي من العام 2001 إلى العام 2009) ونائبه تشيني، ووزير دفاعه رامسفيلد والعديد من أركان إدارته الذين عُرفوا باسم «المحافظين الجدد» ارتكبوا العديد من الجرائم بحق مئات الألوف من العراقيين في الحرب على العراق بالعام 2003 بحجة وجود أسلحة الدمار الشامل، والتي ثبت بطلانها، وحيث نتج عن هذه الحرب أيضاً خسائر أمريكية كبيرة في الأرواح وفي الاقتصاد ولم تتم معاقبة أيٍ من المسؤولين عنها.
هذه نماذج من سياسات خارجية أمريكية أو حروبٍ أقرّها رؤساء أمريكيون في القرنين السابقين والقرن الحالي ولم تحصل أي معاقبة لهم على ما سبّبوه من خسائر بشرية وأضرار مادية لأمريكا ولدولٍ أخرى. ربما سبب المشكلة هو هيمنة شركات ومصانع كبرى في الولايات المتحدة على مراكز صنع القرار وعلى أعضاء الكونغرس وعلى المؤسسات الإعلامية، وبالتالي تتعطل المحاسبة على مسؤولية الحروب ويُصبح المواطن الأمريكي مسيّراً خلف قيادته في كل ما يتعلق بالسياسات الخارجية.
وقد حاولت عدة مؤسسات إعلامية أمريكية فضح بعض ما تمارسه الإدارات الأمريكية من تضليل سياسي ومعلوماتي عن حروبها الخارجية لكن ذلك لم يصل إلى حد المحاسبة الدستورية والقانونية للمسؤولين عن هذا التضليل أو عن تلك الممارسات المسيئة لأمريكا ولشعوب أخرى.
والحقائق التي تكشفها وسائل إعلام أمريكية عن حروب أمريكا الخارجية تتحول عادة إلى أفلام وكتب وثائقية ولا تصل إلى مستوى الملاحقة القانونية لمرتكبي المخالفات على المستويات العليا من الحكم. وبذلك تتأكد حرية الكلمة للإعلام في أمريكا وحرية الفعل للحاكم!.
ربما تحتاج الولايات المتحدة أيضاً إلى المزيد من كشف الحقائق المتعلقة بمخاطر سياسات أمريكية جرى تنفيذها في العقود الماضية داخل المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، بعدما اتصفت هذه المناطق بأنها بؤر أزمات وصراعات ومصدر إرهاب على العالم كلّه.
فالولايات المتحدة كانت مسؤولةً بشكلٍ كبير عن توظيف حركات سياسية ذات صبغات دينية خلال حقبة «الحرب الباردة» مع المعسكر الشيوعي، هذه الحركات التي تحوّل بعضها إلى جماعات عنفٍ وإرهاب، كما حدث مع «المجاهدين الأفغان» الذين كانوا نواة تنظيم «القاعدة»، وهو الذي أفرز لاحقاً تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة».
وفي مقدمة الأمور التي سبّبت وتسبّب حالات عدم الاستقرار في منطقة «الشرق الأوسط» هو الدعم الأمريكي الكبير لإسرائيل والذي بلغ مداه الأقصى الآن خلال عهد ترامب حيث يتبنى الرئيس الأمريكي الحالي الأجندة الكاملة لليمين الإسرائيلي المتطرف الرافض لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967.
وقد حصدت الولايات المتحدة وقوى دولية وإقليمية نتائج سلبية على مصالحها بعدما زرعت أيديها بذور هذه الأزمات المستمرّة حتّى الآن. لكن الخطر الأعظم، كان وما زال، هو على شعوب المنطقة وأوطانها، وممّا كان يتطلّب من السياسيين وعياً وطنياً وقومياً يتجاوز حدود المصالح الفئوية، لكن هذا الأمر ما زال غائباً رغم أنّ النيران تهدّد كياناتٍ عديدة في المنطقة.