على عكاز «الثعلب العجوز».. بقلم: رشاد أبو داود

على عكاز «الثعلب العجوز».. بقلم: رشاد أبو داود

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٩ نوفمبر ٢٠١٩

يعود «ثعلب السياسة» التسعيني العجوز هنري كيسنجر إلى الطريق نفسه، الذي سلكه قبل 47 سنة متكئاً على عكاز، ليحضر منتدى اقتصادياً في العاصمة الصينية كهدف معلن للزيارة، لكنه مجرد عنوان لقضايا أكبر وأخطر تمس العلاقات الأمريكية- الصينية.
الحكاية بدأت بمصافحة اللاعب الأمريكي بكرة الطاولة «البينغ بونغ» مع منافسه اللاعب الصيني على هامش الدورة 31 التي كانت تقام في اليابان، وقدم خلالها اللاعب الصيني هدية إلى اللاعب الأمريكي لفتت انتباه وسائل الإعلام الدولية. فما كان من الفريق الأمريكي إلا أن عبر عن رغبته بزيارة الصين. وصل الأمر إلى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، الذي وافق على دعوة يوجهها المنتخب الصيني إلى المنتخب الأمريكي.
تمت الزيارة بين 10 و17 أبريل 1971، وكان ذلك أول وفد أمريكي يزور الصين منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وإنهاء ألفي عام من الحكم الإمبراطوري. استقبل رئيس الوزراء شوان لاي الوفد الرياضي الأمريكي، وألقى كلمة أورد فيها عبارة لافتة بقوله: أنتم تفتحون اليوم باباً جديداً للعلاقات بين شعبي الدولتين، بعد ساعات أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عن إجراءات لتخفيف الحظر الأمريكي على الصين.
بعد نحو ثلاثة أشهر قام هنري كيسنجر بزيارة سرية إلى الصين موفداً من الرئيس نيكسون. وفي فبراير 1972فبراير قام نيكسون بأول زيارة لرئيس أميركي للصين. وصدر إعلان شنغهاي، الذي أسس لتطبيع العلاقات والتي عادت رسمياً في 1978، أي بعد مرور نحو ثماني سنوات على المصافحة بين لاعبي كرة الطاولة الأمريكي والصيني في اليابان.
منذ ذلك الوقت تسير العلاقات بين البلدين على ما يرام، لكنها تعرضت لرياح تكاد تتحول إلى أعاصير في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي أبدى مواقف متشددة إزاء بكين، بسبب العجز التجاري للولايات المتحدة أمام الصين، قائلاً: إن الصين تهاجم أمريكا بسلاح ردع غير تقليدي، مشيراً إلى «توازن الردع النقدي».
وهو السلاح الذي أدركت الصين فعاليته بديلاً لتوازن الردع النووي الذي كان متبعاً في الحرب الباردة بين الشرق والغرب، أي قوتها المالية التي تعاظمت في العقود الثلاثة الأخيرة، وتبشر بأنها سوف تصبح سيدة التجارة العالمية، ربما مع العقد الثالث من القرن الحالي من دون منازع، متقدمة واشنطن بخطوات كبيرة.
بهدوء، تبني الصين نفسها دولة عظمى دون التفات لما يقوله الغرب عنها بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتركت ترامب يتخبط بتصريحات تهويشية مندداً بـما يسميه «الغش» الذي تمارسه الصين، ويشن حرباً تجارية شعواء، ثم يفرض التعريفات الجمركية التي تكبد الصين خسائر فادحة، فيما يكاد المشهد يتحول من حرب تجارية إلى حرب باردة تعقبها مواجهات ساخنة.
ولتبريد الوضع بين بكين وواشنطن يظهر كيسنجر، مرة أخرى، محاولاً إنقاذ الموقف عبر المؤتمر، الذي نظمته وكالة «بلومبرغ»، خلال الأيام الماضية في بكين، وأعرب عن قلقه حيال المواجهة القائمة تجارياً بين البلدين.
حذر كيسنجر من مواجهة ما زال من الممكن تفاديها، بين واشنطن وبكين، ومنبهاً إلى أن المواجهة بينهما تقترب من الحرب الباردة، بل ذهب في مخاوفه إلى حد أبعد، فلم يستبعد أن يصل الصراع مستوى أعقد من الحرب العالمية الأولى.
مشاركة كيسنجر، في مؤتمر «بلومبرغ» في بكين، كما تفيد تقارير إخبارية، لم تكن أمراً عشوائياً بل رسالة أميركية في وقت حساس بالنسبة للرئيس ترامب بشكل خاص قبل أي مسؤول آخر، لا سيما أنه يعتمد على كيسنجر اعتماداً مباشراً، في الكثير من الملفات الخارجية. وقد بات الأميركيون يثقون الآن في «الثعلب العجوز»، بشكل أكبر، مقارنة بثقتهم فيه حين كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية، في عهد الرئيس الأسبق، ريتشارد نيكسون.
كان كيسنجر حذر الرئيس باراك أوباما من سياسة «القيادة من وراء الكواليس»، وبين له أن كل مربع قوة ونفوذ أميركي يخليه سوف يقوم غريمه فلاديمير بوتن بملئه في التو، وهذا ما حدث بالفعل في ملفات ساخنة كالملف السوري.
الصين تحتفظ لكيسنجر بسيرة طيبة لدوره في دبلوماسية «البينغ بونغ»، التي فتحت الأسواق الأمريكية والأوروبية أمام صادراتها، فقد أشاد به وزير خارجية الصين وانغ بي، وطلب منه الصينيون مواصلة القيام بدوره الذي لا غنى عنه، حسب تعبير الوزير الصيني، في طريق التنمية السلسة والصحية لهذه العلاقات.
هل ينجح كيسنجر في نزع فتيل المواجهة بين بكين وواشنطن، كما نجح بكسر جدار الجليد بينهما بكرة بينغ بونغ؟ الأرجح أنه سينجح اللهم إلا إذا، كعادته في كثير من القضايا، غير ترامب رأيه!