سلسلة الترجمة: الترجمة الفورية (3).. بقلم: هلا سليمان دقوري

سلسلة الترجمة: الترجمة الفورية (3).. بقلم: هلا سليمان دقوري

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١ أكتوبر ٢٠١٩

قلنا في مقال سابق إن للترجمة أنواع، منها التحريرية والسمعبصرية والفورية. لكن النوع الأهم من وجهة نظري هو الترجمة الفورية والتي يقصد بها الترجمة الشفوية أو المنطوقة وهي ذات أهمية كبيرة في يومنا هذا والاعتماد عليها كبير جداً. 
لا يقصد بهذه الترجمة فقط جلوس المترجم في مقصورة الترجمة في إحدى الزوايا والقيام بترجمة ما يقال في مؤتمر ما أو اجتماع ما، سواء أكان اجتماعاً سياسياً أو اجتماعاً لمجموعة من الخبراء في شتى المجالات. 
عندما يتخذ المترجم مكانه في حجرة الترجمة (booth) ويستخدم أدوات خاصة لسماع المتحدثين والقيام بالترجمة بالتزامن مع ما يسمعه في الحال فهذه تسمى "الترجمة الفورية". وهنا لا يجد المترجم وقتاً للتفكير المديد في ما سيقوله ولا وقتاً لتصحيح ما أخطأ به. ويتطلب منه الأمر معالجة سريعة للمدخلات التي تأتيه عبر السماعات وإعطاء مخرجات سريعة. وكل واحدة من هذه العمليات تتزامن وتتقاطع مع العمليتين الأخريتين. ففي ذات الوقت الذي يتم فيه الاستماع على المترجم أن يجري المعالجة واختيار المفردات المناسبة للسياق ووضعها في تركيب لغوي مناسب للموضوع دون أخطاء لغوية أو قواعدية. ويترافق هذا مع سرعة في الحكم على ما هو حشو أو تكرار وتجاوزه وإعطاء النبرة المناسبة التي تتوافق ونبرة المتحدث الأصلي والتماهي مع سرعته. ولكن عليه أن يتمهل قليلاً بما يعادل الثانية أو الثانيتين لكي يفهم ما سيقوله المتحدث وإلا كان تماماً الوضع كالترجمة الآلية التي تتم دون تفكير وإنما تصبح مجرد عملية إبدال للكلمات. 
إيصال الرسالة التي يقصدها المتحدث هي الأساس، لذلك لدينا ترجمة فورية حرفية لما يقال مع إسقاط الحشو، وترجمة لمعاني ما يقول؛ ولا يستطيع المرء أن يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد عدد كبير جداً من الترجمة الميدانية ويتطلب تدريبات كبيرة جداً. 
ينبغي على المترجم الفوري أن يراعي فهم رسالة المتحدث تماماً لكي يستطيع إيصالها وتحليلها ومن ثم إطلاقها وربطها مع الرسائل الأخرى. إذن، نحن لا نتحدث عن ترجمة جمل كاملة متصلة لأن المترجم قد تضيع منه الجمل لعدم قدرته على ترجمة كل ما يقال أو لتشتت تركيزه أو تباطؤ في سرعته في أحيان أخرى. وهنا تثبت جدارته. لكن لا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا بعد امتلاك المترجم الفوري لمهارات خاصة تعتمد على تشغيل كافة حواسه في وقت واحد والقدرة على الاستجابة للمثيرات الخارجية  جميعها (صوت المتحدث والعرض التقديمي والاستماع لما يقال له من جهة غير التي يترجم لها والتي تطلب منه أمراً ما وهو يقوم بعملية الترجمة)؛ أي أن عليه أن يقوم بتفعيل كافة حواسه وفصلها عن بعضها تماماً. وهذا يتطلب تركيزاً عالياً. كما تتطلب الترجمة الفورية معرفة موسوعية لأن المعلومات التي تقدم في المؤتمرات قد تستلزم تداخلاً لمجموعة من المواضيع (كما حدث معي في ترجمة أحد مؤتمرات إعادة الإعمار حيث تم تناول القوانين الناظمة للاستثمار والنواحي القانونية والتسهيلات المصرفية والإجرائية للمستثمرين والمناطق الجغرافية المطلوب إقامة المشاريع عليها وطبيعة المشاريع وطبيعة التمويل، وتداخل هذا مع السياحة وهندسة الطرقات وغير ذلك).
مع الوقت تصبح ذاكرة المترجم الفوري قصيرة المدى (Short-term memory) حتى أنها تتضاءل لتصبح كذاكرة السمكة لسرعة الإدخال والمعالجة والإخراج للبيانات وكأنه آلة بشرية.
ثمة أنواع أخرى تندرج تحت الترجمة الفورية سنأتي على ذكرها تباعاً.
النوع الذي قد يعطي المترجم الفوري وقتاً أطول بقليل ونتاجاً أفضل ودقة أكبر هو الترجمة التتبعية التي تستخدم عادة في اجتماعات الخبراء وفي المحاكمات الدولية وفي المشافي بحضور طبيب زائر مثلاً وفي المؤتمرات الصحفية، حيث يستمع المترجم لما يقوله الخبير لمدة تتراوح بين دقيقتين وأربع دقائق (وفعلياً في العالم العربي قد تتجاوز السبع دقائق) وهنا على المترجم تدوين ملاحظاته وإلا نسي ما يقال ما لم يكن متمتعاً بذاكرة قوية خارقة وطويلة الأمد (Long-Term Memory). وهو – في هذه الحالة – لا يدون كل ما يقال وإنما يلجأ للغة اختزالية ورموز خاصة به وبطريقة تفكيره تخصه هو وحده.  وليس هنالك رموز عالمية مشتركة لعملية التدوين إلا الرموز الصحافية. وهنا يستفيد المترجم من لغة الجسد وحركات الوجه لزيادة فهم الرسالة خاصة وأنه وجهاً لوجه مع المتحدث ويستطيع إيقافه والاستفسار عن الفكرة التي لم تصله لسبب من الأسباب.
وإن انتهى المؤتمر الأصلي أو الاجتماع الأصلي وكانت هنالك اجتماعات ثانوية تجري على هامش المؤتمر بين المؤتمرين بين أشخاص من جنسيتين فهذا يعني أننا نتحدث عن (Laiason Translation) التي يكون فيها طرفان ثالثهما المترجم وهي ترجمة لا تتطلب تدويناً وأقرب لعصف أفكار أو مناقشة أفكار الاجتماع أو أحاديث وتعارفات شخصية أو تبادل لوجهات النظر. وقد تجري بين رجال الأعمال الذين يحضرون معارض خارجية.
أحياناً يكون هناك اجتماع وفيه شخص أجنبي وحيد ولا تكون ثمة حاجة لحجرة ترجمة. فيجلس المترجم إلى جانب الأجنبي ويترجم همساً في أذنه ما يقال في الاجتماع وخاصة إن كان رجل أعمال أو مستثمر. ويسمى هذا النوع بالترجمة الهمسية (Whispered Interpreting).
وأحياناً تتم الاجتماعات كما هي الحال حديثاً عبر السكايب أو بين الرؤوساء على الهاتف، وهنا يسمى هذا النوع Telephone Or Video Conferencing. وتتم إن لم يكن ثمة إمكانية للسفر، أو لتبادل الأفكار قبل توقيع العقود.
وهنالك نوع من الترجمة يتم استخدامه في الاجتماعات عند تقديم وثائق معينة أو في المؤتمرات عند عرض معلومات معينة على شاشة كبيرة وهي الترجمة المنظورة. أي القيام بترجمة ما يشاهده المترجم على الشاشة مباشرة أو ترجمة الوثائق الورقية بين يديه دون إعطائه وقتاً أيضاً. وهذا النوع مطلوب من المترجم الفوري في المؤتمرات والاجتماعات، حيث يقوم بترجمة ملف أو ورقة عن الشاشة تخص المتحدث على المنصة. ويتطلب هذا النوع مهارة القراءة السريعة والقدرة على ربط الجمل ومعرفة نقاط التركيز والأهمية باستخدام لغة جيدة ونبرة قوية لا فأفأة فيها لأن أي تباطؤ أو فأفأة قد يعطي انطباعاً بقلة خبرة المترجم، أو إحساساً بأن ما يترجمه غير مترابط أو لا قيمة له أو حتى غير صحيح.
لكل ما سبق، لا يسعني إلا القول إن الترجمة الفورية اليوم تأتي في المقام الأول للحاجة الملحة إليها في هذا العالم متسارع التطور رغم أن الحاجة إلى مترجم فوري قد تخبو بعد فترة قد تكون وجيزة حقاً لقدرة التكنولوجيا استبدال العنصر البشري بالآلي في عمليات الترجمة وغيرها.