كيف يستخدم بوتين سياسة الصبر الاستراتيجي التي نقضها ترامب؟

كيف يستخدم بوتين سياسة الصبر الاستراتيجي التي نقضها ترامب؟

تحليل وآراء

الأحد، ١١ أغسطس ٢٠١٩

“إنّ فكرة الصبر الاستراتيجي ليست جديدة، أو محصورة بالروس لكنّها بالتأكيد أجندة موسكو حاليّاً”. هكذا يقدّم البروفسّور المشارك في مادّة التاريخ ضمن جامعة رايرسون الكنديّة الدكتور آرنه كيسلنكو جزءاً كبيراً من التصوّر الروسيّ للسياسة الخارجيّة في تعليقه ل “النهار”.
استخدم الرئيس الأميركيّ السابق باراك أوباما سياسة “الصبر الاستراتيجيّ” تجاه كوريا الشماليّة منذ سنة 2009، ثمّ عاود التشديد عليها في وثيقة الأمن القوميّ التي أصدرتها إدراته سنة 2015 إنّما مع توسيعها لتشمل عدداً من القضايا الأخرى.
ومع أنّ التجارب النوويّة والبالستيّة المتوسّطة والطويلة المدى توقّفت مؤخّراً، لم يكن لهذه السياسة الفضل الكبير في الوصول إلى النتيجة الراهنة. نجحت الإدارة الحاليّة وعلى رأسها دونالد ترامب في دفع بيونغ يانغ إلى طاولة الحوار عبر سياسة هي أبعد ما تكون عن “الصبر الاستراتيجيّ”، ولو أنّ هنالك أهدافاً استراتيجيّة أخرى لمّا تحقّقها بعد.
إذاً، ما أوضحه كيسلنكو، وهو أيضاً مدرّب في برنامج العلاقات الدوليّة في جامعتي ترينيتي وتورونتو الكنديّتين، يؤكّد أنّ السؤال ما عاد إذا كانت روسيا تعتمد هذه الاستراتيجيّة بل ما إذا كانت استراتيجيّة ناجحة بالنسبة إلى موسكو. كذلك، ثمّة ما يدعو إلى التساؤل عن سبب اعتماد روسيا هذه الاستراتيجيّة في وقت لم تؤدّ المطلوب منها خلال عهد أوباما، إضافة إلى تعرّضها لانتقادات شديدة داخل الولايات المتّحدة. فلماذا برأي كيسلنكو يندفع الرئيس الروسيّ إلى تطبيقها اليوم؟ وهل ستثمر مكاسب حيويّة لبلاده في المديين المنظور والبعيد؟
سياسات فاقدة للتجانس
“يبدو أنّها تعمل”. هذا هو التقييم الأوّلي لكيسلنكو حيث يتابع شارحاً الأوضاع والأسباب التي تجعل من هذه السياسة فعّالة: “الخلاف الداخليّ في الولايات المتحدة يكبّر مشكلة واجهتها واشنطن لبعض الوقت (حتى قبل ترامب) عبر أجنداتها غير المنظّمة للسياسة الخارجية”. ويضيف أنّ “الولايات المتحدة سائرة على غير هدى لتشكيل سياسة متجانسة ومتناسقة” بالتحديد مع روسيا.
في وقت، يتّهم كثر ترامب باسترضاء نظيره الروسيّ منتقدين سياسته لأنّها تجعل الموقف الأميركيّ مع روسيا ضعيفاً بحسب تعبيرهم، يُرجع كيسلنكو غياب التناسق الأميركيّ في السياسة الخارجيّة تجاه موسكو إلى أخطاء في صناعة القرار لدى أكثر من رئيس وصولاً حتى إدارة جورج بوش الابن الذي “تجاهل روسيا ككلّ” خصوصاً حين كان بوتين “غير معروف” بعد. ويشير إلى أنّه في تلك الحقبة، برزت مسائل شتّتت الانتباه الأميركيّ عن صعود روسيا مثل الحربين في أفغانستان والعراق، وملفّات الصين وكوريا الشماليّة وإيران. هذه القضايا وغيرها “أنتجت أثراً صافياً في جعل روسيا أولويّة دنيا في دوائر السياسة الخارجيّة، وأمّن هذا، العديدَ من الفرص لموسكو كي تتصرّف بحرّيّة نسبيّة في الشؤون الخارجيّة”.
مكاسب من دون عوائق
إذاً، تمكّن بوتين من استغلال هذه الحرّيّة النسبيّة لإعادة بلاده تدريجيّاً إلى المسرح الدوليّ، لكن أوّلاً، عبر ما يسمّيه كيسلنكو “الخارج القريب” من الدول التي كانت واقعة في المدار السوفياتي مثل أوكرانيا. وتوسّعت موسكو لاحقاً لتتدخّل في الشرق الأوسط انطلاقاً من حملتها العسكريّة في سوريا بدءاً من سنة 2015.
ولا يمكن نسيان الحرب الخاطفة في جورجيا سنة 2008 التي كانت فاتحة العودة الروسيّة إلى الساحة العالميّة، خصوصاً أنّ الردّ الغربيّ حينها كان خجولاً. ويرى مراقبون أنّه لو استطاع الغرب إبداء ردّ فعل متشدّد ضدّ الروس حينها، لكان باستطاعته أن يتفادى الحرب في شرق أوكرانيا، ولأمكنه ربّما أن يتفادى ضمّ روسيا للقرم.
على أيّ حال، تشكّل جميع هذه الأمثلة وغيرها “دليلاً على كيفيّة تدبّر روسيا أمر رسم مسار مستقلّ جداً – وحتى ناجح – من دون تدخّل كبير من الغرب”. لكن لا يزال السؤال عن السبب الذي يدفع بوتين إلى تبنّي استراتيجيّة ثبت عقمها مع إدارة أوباما.
قراءة متأنّية
استناداً إلى تحليل كيسلنكو يمكن فهم أنّ الرئيس الروسيّ لجأ إلى هذه الاستراتيجيّة بالتوازي مع إشاحة الأميركيّين نظرهم عن روسيا واهتمامهم بقضايا أخرى إضافة إلى نجاح روسيا في التوسّع إقليميّاً ودوليّاً. من هنا، أتى “الصبر الاستراتيجي بشكل كبير كنتيجة لهذا النجاح”. بُني هذا النجاح على تخطيط وتنفيذ واضحين من قبل صنّاع القرار الروس:
“الرسملة على واقع أنّ الولايات المتحدة المنقسمة لن تكون قادرة على تغيير أجندات السياسة الخارجيّة بشكل جذريّ أو على أن تقودها بسهولة كبيرة، وذلك مع إبقاء تركيزها على نقاط محوريّة أخرى، مثل الصين، محاربة الإرهاب، الخروج من الحروب الطويلة والمكلفة”. ومع كلّ هذه الاهتمامات، “سوف تحتاج (واشنطن) إلى التكيّف مع بعض الجبهات: أي روسيا”.
مطبّات محتملة… وإنّما
إنّ سياسة الصبر الاستراتيجيّ قد تسمح لروسيا أيضاً بالانتظار قليلاً حتى ينجلي غبار الحرب التجاريّة بين الولايات المتّحدة والصين. وسبق للبروفسّور المساعد في مادّة العلاقات الدوليّة في “جامعة كالفورنيا الجنوبيّة” روبرت إنغليش أن أشار ل “النهار” إلى أنّه “فيما تستمرّ الصين بالصعود، ستصبح المتحدّي الواضح والبارز لنا وسنريد ونحتاج مساعدة روسيا في يوم قريب من الأيّام”.
يخضع مدى الحاجة الأميركيّة لموسكو في حربها التجاريّة مع الصين للنقاش الداخليّ. لكن بالنسبة إلى روسيا، يبدو أنّ قطف ثمار استراتيجيّتهم لن يكون بدون مطبّات.
يختم كيسلنكو تعليقه ل “النهار” ذاكراً أنّه على الرغم من النجاح الروسيّ لغاية اليوم، “يتعاظم احتمال أن ترتدّ الاعتداءات الروسيّة في أماكن مثل أوكرانيا عليها، لذلك تحتاج موسكو إلى الحذر من أن تكون مستفِزّة أو مهتمّة بمصالحها الذاتيّة بشكل مبالغ به. هذا ]الرئيس[ (أو على الأرجح) رئيس آخر قد يستخدم ذلك من أجل حشد الأمّة ل ‘الوقوف في وجه‘ روسيا. مع ذلك، وفي الوقت الراهن، يبدو ]الصبر الاستراتيجي[ سياسة ناجحة وقد عزّزت نفوذ روسيا دوليّاً”.