«الموساد» على الأرض السودانية.. بقلم: ميرفت عوف

«الموساد» على الأرض السودانية.. بقلم: ميرفت عوف

تحليل وآراء

الأحد، ١١ أغسطس ٢٠١٩

«عروس قرية سياحية على البحر الأحمر، منطقة رائعة لممارسة رياضة الغطس، ومركز للترفيه الصحراوي في السودان»،هذا الإعلان السياحي لهذه القرية الواقعة على ساحل البحر الأحمر في السودان، مشروع استثماري صنعه «جهاز المخابرات الإسرائيلي الخارجي (الموساد)».
أقيمت تلك القرية السياحية للتغطية على واحدة من أكثر عمليات «الموساد» جرأة وتعقيدًا وأطولها تشغيلًا، حتى إنها جذبت شبكة «نتفليكس»، التي تمكنت مؤخرًا من عرض فيلم خاص بالعملية التي تمت في «منتجع عروس»؛ بغية تهريب آلاف اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) إلى إسرائيل في أوائل الثمانينيات.
بيد أن تلك الحادثة لم تكن التدخل الإسرائيلي الأول في السودان، ويبدو أنه ليس الأخير، في إطار التطورات الأخيرة في السودان.
«الموساد» في السودان.. دعم انفصال الجنوب، ووقف السلاح لـ«حماس»
واحدة من أهم القمم العربية التي تبنت قرارات مصيرية ضد إسرائيل، بعد نكسة يونيو (حزيران) 1967، انعقدت في العاصمة السودانية الخرطوم، ما بين 29 أغسطس (آب) و1 سبتمبر (أيلول) 1967.
تبنت القمة العربية إعلان اللاءات الثلاث وهي: «لا صلح، ولا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل»، بيد أن العداء بين إسرائيل والسودان التي كانت أول دولة أعلنت الحرب على إسرائيل من داخل برلمانها؛ لا يعود فقط للقضيةالفلسطينية، وإنما لتورط إسرائيل في الحروب الأهلية التي شهدتها السودان. فإسرائيل أول الدول التي نغصت على السودان فرحة إعلان استقلالها عام 1955.
نتنياهو يصافح الزعماء الدينيين للجالية اليهودية الإثيوبية خلال دولة إحياء ذكرى اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) الذين لقوا حتفهم في طريقهم إلى إسرائيل في العام 2014
فبعد يوم واحد من هذا الإعلان؛ كانت إسرائيل من أهم الدول التي دعمت أول تمرد معلن انطلق في مدينة توريت، تحت شعار «الانفصال عن السودان»، إذ قدمت التدريب والسلاح للحركة الانفصالية، التي استمر نزاعها مع الحكومة السودانية حتى أبريل (نيسان) 1972، حين وقعت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» اتفاق سلام مع حكومة الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري آنذاك.
ويبين كتاب «مهمة الموساد في جنوب السودان»؛ كيف تدخل «الموساد» في عملية تقسيم السودان، وعمل على بناء القوة العسكرية والاقتصادية للانفصاليين الجنوبيين منذ ستينيات القرن الماضي، وحتى انفصال جنوب السودان رسميًّا في يوليو (تموز) 2011. ويؤكد الكتاب على «دعم إسرائيل الحركة الشعبية لتحرير السودان، عبر تدريب مجموعات كبيرة من الشباب الجنوبي داخل إسرائيل، ومجموعة أخرى تلقت التدريب على العمل الاستخباري، وحرب المدن، والمهمات الخاصة داخل إسرائيل لدعم العقيدة الانفصالية، في وقت كانت تقوم فيه مجموعة أخرى من «الموساد» بتدريب جنود آخرين داخل أراضي جنوب السودان».
ولم يكن الجنوب السوداني وحده الذي دعم الإسرائيليون تمرده؛ إذ كشفت مصادر سودانية بالوثائق تمويل «الموساد» حركة تمرد في إقليم دارفور، ومساندة «حركة عبد الواحد نور» المتمردة في دارفور، وذكرت المصادر السودانية أن تلك الحركة عقدت اجتماعًا في منطقة تروتنقا، بحثت خلاله القيام بعمليات عسكرية ضد المواقع التابعة للحكومة السودانية بإقليم دارفور، والسيطرة على معسكرات النازحين.
كما أن «الموساد» الذي خرج من «منتجع عروس» – سيأتي ذكر القضية لاحقًا- لم تنقطع تحركاته في السودان؛ ففي أبريل 2008؛ نفذ ضربة جوية استهدفت سيارة في منطقة «أوكو قباتيت» الشرقية، وأعلنت إسرائيل أنها لمهربي السلاح إلى غزة، ولحقت بهذه العملية ضربة أخرى لأربع سيارات في وادي العلاقي بولاية البحر الأحمر.
أما في مايو (أيار) 2011، فقد نفذت إسرائيل غارة جوية بالقرب من «مطار بورتسودان الدولي» استهدفت المواطن السوداني عيسي الهداب، وفي عام 2012 نفذت إسرائيل ضربة جديدة داخل بورتسودان بحي ترانسيت، استهدفت أحد شيوخ قبيلة العبابدة.
بيد أن عام 2016 كان مفصليًّا في الهرولة الإسرائيلية نحو السودان، إذ إن قرار السودان بقطع علاقتها الدبلوماسية مع إيران في يناير (كانون الثاني) 2016، شجع تل أبيب على المبادرة بجلب مكافأة للخرطوم، وذلك بمطالبة الولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي تحسين علاقاتها مع السودان، والإقدام على خطوات إيجابية، خاصة في المجال الاقتصادي، تجاه الخرطوم.
«اجلبوا لي يهود إثيوبيا»
أمر وجهه رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، مناحيم بيجن، إلى مسؤولي «الموساد» في عام 1977. إذ كان يجب عليهم أن يضعوا يهود إثيوبيا ضمن خطط جلب اليهود من كافة أنحاء العالم إلى «أرض الميعاد»، أو كما يقول اليهودي الإثيوبي نفتالي أكلوم «لكي يفهم اليهود في جميع أنحاء العالم أن الآلاف من الناس تركوا حياتهم المريحة ومشوا إلى المجهول، واحتضنوا احتمال الموت من أجل حلم الوصول إلى القدس».
واستجابة للأمر السابق، سارع رئيس عمليات «الموساد» ديفيد كيمحي، إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وقدم اتفاقًا مع الرئيس الإثيوبي منغستو هيلا مريام، يقضي بتقديم السلاح مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى إسرائيل.
وقع الاتفاق، وبدأ تنفيذه بوصول أول مجموعة من يهود إثيوبيا إلى إسرائيل في العام ذاته، لكن فضح الإسرائيليين لهذا الاتفاق على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، في فبراير (شباط) 1978، دفع منغستو إلى إغلاق الحدود ووقف عمليات الهجرة، ليغير «الموساد» خططه في عمليات إخراج اليهود الإثيوبيين (الفلاشا)، وتكون السودان هي المحطة الرئيسية التي اعتمد عليها جهاز المخابرات الإسرائيلي في إخراج يهود إثيوبيا من بلادهم نحو إسرائيل، إذ حدث ذلك بعد عام فقط من إغلاق منغستو للحدود.
وعمل «الموساد» على تأمين غطاء غير عادي، يضمن إخراج آلاف اليهود الإثيوبيين (الفلاشا) الذين لجؤوا بعد الحرب الأهلية الإثيوبية (سبعينات القرن الماضي) إلى السودان، وأقاموا في مخيمات، إذ إن عملية إخراج بعض هؤلاء بمستندات مزورة إلى بعض الدول الأوروبية، ومنها لإسرائيل، لم تكن كافية.
فاختار «الموساد» ساحل السودان على البحر الأحمر، وتحديدًا مدينة بورتسودان، لينفذ عليها أكثر عملياته جرأة وتعقيدًا وأطولها تشغيلًا، تحت ستار إقامة قرية استجمام. إذ استغل «الموساد» ترك مستثمرين إيطاليين لمشروع استثماري بدأوه عام 1972 ثم توقفوا، لعدم وجود كهرباء ومياه وطرق، فأرسل عملاءه على أنهم ممثلون لشركة سويسرية، وأقنعوا السلطات السودانية بأنهم يريدون الاستثمار في موقع القرية، وبالفعل استأجروها لمدة ثلاث سنوات مقابل 320 ألف دولار.
أطلق على هذه القرية «منتجع عروس»، واعتمد فيها «الموساد» على توظيف السائحين من محبي الغوص، وأحاطهم بعناصر منه ومن غواصي الوحدات الخاصة في البحرية الإسرائيلية، وسرعان ما حققت القرية نجاحًا كبيرًا، حتى إنها استغنت عن الدعم المالي من «الموساد».
واستقر عملاء «الموساد» في القرية، ولم يغادروها إلا لنقل مجموعة من يهود إثيوبيا (الفلاشا) من مخيمات اللاجئين، وذلك بخداع السلطات السودانية بأنهم ذاهبون للخرطوم لقضاء مصالح لهم، ثم قيامهم بنقل المهاجرين عبر طريق طويل يصل لنحو 800 كيلومتر، مرورًا بنقاط تفتيش ينجحون في عبورها مستخدمين الرشوة، حتى يصلوا إلى الشاطئ، حيث تنقلهم وحدات من البحرية وأحيانًا القوات الجوية الاسرائيلية.
ومع وقوع مجاعة السودان عام 1984، قرر «الموساد» تسريع وتيرة عمليات إخراج يهود إثيوبيا (الفلاشا) بمساعدة الولايات المتحدة، فوقعت في عام 1984 العملية التي عرفت باسم «عملية موسى»، ونجمت عن اتفاق سري بين إسرائيل والرئيس السوداني آنذاك جعفر النميري، والتي تسمح بإخراج 6 آلاف يهودي إثيوبي في 12 رحلة سرية عبر الخرطوم، مرورًا بأوروبا وصولًا إلى إسرائيل، وذلك مقابل مساعدات بقيمة 200 مليون دولار، إضافة إلى 60 مليون دولار وصلت عاجلًا إلى النميري.
إلا أنه قبل أقل من عام على توقيع الاتفاقية؛ وتحديدًا في يناير (كانون ثاني) 1985، كُشف أمر المنتجع، ثم بعد ثلاثة أشهر أطيح بالنميري في انقلاب عسكري، وشرع النظام الجديد في البحث عن «جواسيس الموساد».
يقول أحد العملاء الذين عملوا في القرية: «غادرنا القرية في عربتين إلى الشمال، حيث التقطتنا طائرة شحن عسكرية من طراز سي 130 وأعادتنا إلى إسرائيل. لقد كان هناك سياح في القرية. استيقظوا في اليوم التالي ليجدوا أنفسهم وحدهم في الصحراء».
هل يتغير الواقع القائم منذ عقود وتتقارب السودان مع إسرائيل علنًا؟
«نصحونا بالتطبيع مع إسرائيل لتنفرج عليكم، ونقول الأرزاق بيد الله وليست بيد أحد». *الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، قبل فترة قليلة من سقوط نظامه في أبريل 2019.
ولم يكن إصرار البشير على عدم التطبيع مع إسرائيل بالشيء الجديد الذي يقدمه تصريحه السابق، فقد انكبت حكومة البشير دومًا على نفي كل الأخبار التي تتحدث عن التطبيع مع إسرائيل بتسريبات إسرائيلية، ومع ذلك لا يمكن إنكار وجود شواهد عدة تبين أنّ التطبيع مع إسرائيل ظل خيارًا يراود بعض قيادات «حزب المؤتمر الوطني السوداني» خلف الكواليس.
كأن يصرح والي ولاية القضارف السابق، كرم الله عباس الشيخ، في أبريل 2012، بأنّ هناك تيارًا داخل «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم، يوافق على التطبيع مع إسرائيل، وهو ما عده الحزب مجرد رأي شخصي. كذلك طالب والي النيل الأبيض ورئيس لجنة الاستثمار والصناعة في البرلمان سابقًا، عبد الحميد موسى كاشا، بالتطبيع مع إسرائيل، قائلًا: «ما دمنا قد قبلنا بأمريكا فلنقبل بإسرائيل»، وقال رئيس القطاع السياسي في الحزب الحاكم، مصطفى عثمان إسماعيل: «إنّ اتخاذ قرارٍ بقبول التطبيع مع إسرائيل أو عدمه، يعود إلى مؤتمر الحوار الوطني».
طالبو اللجوء الأفارقة من السوادن وإريتريا، الذين دخلوا إسرائيل بطريقة غير مشروعة عبر مصر
كما كانت إسرائيل تفصح بين الفنية والأخرى عن جهودها السرية، التي تنصبّ الآن على السودان، مثل لقاء مبعوث إسرائيلي سرًّا بمسؤولين سودانيين رفيعي المستوى في تركيا في عام 2017. إذ كتب كبير مراسلي الشؤون الديبلوماسية في «القناة العاشرة الإسرائيلية» باراك رافيد على موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) قائلًا: «إن اللقاء تم في إسطنبول بين مبعوث الخارجية الإسرائيلية بروس كشدان، ووفد سوداني برئاسة أحد مساعدي مدير جهاز الأمن السابق محمد عطا، بوساطة قادها رجل أعمال تركي مقرب من الرئيس السوداني عمر البشير، وتمت مناقشة تطبيع العلاقات والمساعدات في مجال الاقتصاد والزراعة والصحة».
وقد شكلت قضية مرور طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في يناير (كانون الثاني) 2019 محطة مهمة في مسلسل الحديث عن تطبيع السودان، فرغم تبرؤ الخرطوم من قرار السماح، فإن المحللين يرون أن الرحلة تشير إلى أن الخرطوم ترغب في إبداء المرونة فيما يتعلق بتحليق الطائرات الإسرائيلية في دولة ثالثة خاضعة لسيطرة هيئة الطيران المدني التابعة لها.
وفي ظل التطورات الأخيرة في السودان وفي العالم؛ تعنى إسرائيل الآن أكثر ببذل جهود لترتيب علاقات مع السودان. ويتوقع المراقبون أن تتغير العلاقات الثنائية بين الخرطوم وتل أبيب، خاصة أن التقارب السوداني الأمريكي جاء على حساب العلاقة السودانية مع إيران، التي كانت قريبة من الخرطوم، كما جاء تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتشاد -الجار الوحيد الذي كان يقاطع تل أبيب- كآخر منفذ في طوق إسرائيل المحكم للوصول إلى الخرطوم، لتبدو الخرطوم مضطرة هذه المرة لحسم كثير من الجدل حول التطبيع مع تل أبيب من عدمه.
وبوصول المجلس العسكري الانتقالي لحكم السودان في أبريل 2019؛ تأكدت معلومات حديثة أن المجلس وقّع مع شركة «ديكينز ومادسون» الكندية اتفاقًا قيمته ستة ملايين دولار أمريكي لتسهيل حصوله على اعتراف دبلوماسي دولي، وتلميع صورته، ويرأس هذه الشركة ضابط «الموساد» الإسرائيلي الشهير الذي يدعى أري بن ميناشي، الذي قال لـ«بي بي سي» إنه «توصل إلى اتفاق مع المجلس العسكري بمساعدتهم في تشكيل حكومة مدنية، وجلب اقتصادي ورئيس وزراء مؤهلين لإدارة البلاد حتى إجراء انتخابات عامة، وترتيب الأوضاع الحالية».
المصدر/ ساسة بوست