العاصفة ستهب من جديد.. بقلم: الدكتورة: ندى الجندي

العاصفة ستهب من جديد.. بقلم: الدكتورة: ندى الجندي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٦ أغسطس ٢٠١٩

سكون حذر يُخيم بصمته على الأجواء.. أين أنت تعالى إلي أيها الطائر المسافر وارفعني على أجنحتك.. تعالى نحلقُ بعيداً.. نرتفع عالياً فوق المنازل.. نجتاح الجبال.. نطيرُ فوق السحاب.. نلتمس السماء مهما كانت الغيوم سوداء إلا أنها لا تحجب أشعة الشمس!
لنرتفع ونخرج من الدائرة الضيقة التي تحيط بنا علنا نلتمس عين الحقيقة!
ألا تختلف الرؤية باختلاف الزاوية التي تنظر منها وربما تكون أعمق عندما نخرج من أفق محدود رسمته مخيلتنا وأطره ماض|ٍ مُشبع بأفكار بالية متوارثة تؤرق ليلنا وتقتل في نفوسنا الأمل بغدٍ مشرق!
لنخرج من ذاتنا علنا نتبين ماذا يجول في فكرنا وأي نوازع نُصارع في داخلنا.. لنحاول أن ننظر بموضوعية بعيداً عن أي أفكار مُسبقة تشوش حضورنا.
كيف لنا أن نمتلك البصيرة ونحن ندور في فلك رؤية محددة.
تحذرت حواسنا ولم نعد ندرك خفايا الأمور.
ها هو الطائر المغرد يفرد جناحيه محلقاً فوق المحيط.. يستمد ثباته من زرقة السماء
أمواج البحر تتعالى.. ماذا يتراءى لنا من بعيد؟
إنها السفينة.. ما زالت تُبحر!لم تغرق!
ما زالت تشق عباب البحر رغم الإعصار القاتل
قاومت بشدة الرياح العاتية وتلاطمت أطرافها بالصخور القاسية وما زالت صامدة!
تمزقت أشرعتها وانقض عليها قراصنة البحر من كل حدب وصوب فصار قبوها مقبرة لهم!
رائحة الموت قد جرت إليها أسماك القرش فتمكن طاقمها من إدارة دفة القيادة وتوجيهها بذكاء فلم يستطيعوا أن ينالوا منها!
رغم الخروقات التي أصابتها والمياه التي تسربت إلى أطرافها إلا أنها لم تغرق!.. ما زالت تُبحر صامدة في وجه التيار وكيف لها أن تغرق وهي تدرك المسار!.. وتدرك تقلبات المحيط وتبعاته على مسيرتها وتعلم أن لا سبيل للنجاة إلا المقاومة فكيف لها أن تضلّ الطريق وهي تحمل في عمقها إرث الفينقيين!
يجب أن تتخلص من رائحة العفن التي انتشرت في داخلها من أولئك الذين عبثوا بجمالها وراهنوا على غرقها طمعاً بسلطتها، ولكن آمالهم باءت بالفشل.
يجب أن تعود رائحة الياسمين تُضفي عبقاً على المحيط.
السفينة ما زالت تبحر ولكن الوقود قد نفذ منها بعد سنوات العجاف التي مرت بها وهي الآن بحاجة إلى سواعد أبنائها حتى تتابع المسير فعودوا إلى أحضانها مُتحدين، ولكن ألا نتساءل عن سر قوتها؟؟ وأي استراتيجية ذكية استخدمتها في صراعها مع تقلبات المحيط من حولها؟
أهو الذكاء.. الدهاء.. الحرب خدعة فأي دهاء.. اتسمت به قيادتها؟
لا أحد يستطيع التنبؤ بمسارها!
استطاعت السفينة أن تحول مسارها بشكل تتجنب معه الغرق.. إنها أشبه بـ(بروتيه protee) عجوز البحار ورمز الحكمة.. ينطق دائماً بالصواب ولا يخطئ أبداً.. يغوص في أعماق البحار وعلى الشاطئ إله ويتواصل مع الإنسان حارس قطيع الفقمة، أبوه (بوسيدون Poseidon) إله المحيطات وأمه الآلهة (تتلي tetlys) وفي بعض الكتابات تذكر (بروتيه protee) على أنه ملك مصري يحكم جزيرة (فاروس pharos).
إنه يمتلك المعرفة، ولكنه لا يُحب الإدلاء بها يعرف الماضي والحاضر ويستطيع التنبؤ بالمستقبل وهي صفة إلهية!
يرى ما لا يراه الآخرون ويدرك ما يعجز عن إدراكه ولكنه لا يحب الإجابة على الأسئلة ويتهرب من أي سؤال يُطرح عليه بأن يستخدم سياسة التحول فيتغير إلى أشكال مختلفة ثعبان.. أسد.. ماء.. نار.. يتماهى مع الوجه الجديد حتى يُنقذ نفسه من الموقف الذي هو فيه وعندما ينتصر يعود إلى شكله الأصلي.
إنه يتقن لعبة الظهور والاختفاء بدقة بالغة، سلاحه المستخدم هو التغيير وفق مقتضيات الواقع بما يتناسب مع السياق الذي يأتي فيه قد يتمثل في شكل ضحية حيوان يُحبه الجميع يقع العدو في فخ عناقه ثم ينقض عليه!
أي يتمسكن فيتمكن فالمهم هو أن يشعر عدوه بحالة أمان تجاهه أي يجرده من حالة التأهب وينقض عليه مباغتة.
(بروتيه protee) ينتمي إلى كل العوالم وليس له عالم خاص به!
إنه يمتلك كل الأشكال ويتكيف مع مختلف أطياف المجتمع الإنسان.. ما هي هويته؟ ما هو وجهه الحقيقي؟
لا أحد يعرف!
لا أحد يستطيع الإمساك به!
يلجأ بروتيه مع قطيع الفقمة إلى المغارة وسط النهار، حيث ينام وقت القيلولة وهو المكان المناسب للحصول منه على المعرفة والإجابة على الأسئلة، أي رمز يُجسد هذا المكان؟ إنه يربط بين الظل والشمس، إذا سُئل بروتيه يجيب بكلمة (لا) ثم يقول النقيض، إنه لا يخاف من الاختلاف!
وهل ندرك أهمية الشيء إذا لم نعرف نقيضه فلولا الظلام لما عرفنا أهمية النور.
في الاختلاف غنى ولا يصل الإنسان إلى المعرفة إلا إذا اتبع مبدأ الشك في ما يعتقد بأنه اليقين.
بروتيه يسبح في النقيض فصار رمز الإنسان الأول، نصح حكيمُ ذات يوم أحد الأفراد يتوق للحصول على المعرفة من برؤيته بأن يسأله وقت القيلولة في المغارة وكأن هذا المكان هو الفاصل بين النور والجهل..
بين الخير والشر..
نصحه بأن يلجأ إليه، وهو في المغارة ويقيده وبالتالي يمنعه من التحول والتغيير ويبقى على شكله الأصلي ويجيب على أسئلته.. أي رمز تعكسه شخصية بروتيه؟
كل إنسان يمتلك العديد من الأقنعة يستخدمها في تعامله مع المحيط وربما هو نفسه لا يدرك حقيقة ذاته إلا إذا تجرد من الأقنعة التي غطى بها وجهه الحقيقي وتماهى معها لدرجة أنه لم يعد يُدرك وجهه الحقيقي!
لا نعرف جوهر الإنسان إلا إذا سقطت هذه الأقنعة يُعتبر ربروتيه رمز الإنسان الذي يتمتع بفكر منفتح يتواكب مع الحداثة ويتأقلم فالتغيير يحمل فكرة التطور.
وهو رمز الحياة لا يعرف الموت وكيف له أن يموت وهو في حالة تجدد مستمر!
إذا لم يتطور الإنسان فهو في حالة أشبه بالموت وعندما نصف إنسان ما بأنه يتمتع بشخصية بروتيه فهذا يعني أنه قوي يستطيع مقاومة الصدمات بحيث يمتلك أوجه مختلفة تمكنه من حل المشكلات والتأقلم أي القدرة على امتصاص الصدمة ليعود بعدها إلى شكله الأصلي أي لا يتأثر بالصدمات..
فهو لا ينكسر أبداً
ماذا عن السياسة؟؟ ألا ترمز شخصية بروتيه إلى لعبة السياسة بحد ذاتها وقدرتها على إنتاج الممكن، بحيث يتأقلم وفق الظرف الطارئ والسياسة متقلبة مرهونة بالعامل الاقتصادي.
وتتطلب الحنكة والدهاء في القيادة لمواجهة أطماع المستعمرين.
ماذا عن الفكر؟؟ للحصول على المعرفة نحتاج للغوص في الأعماق فأي فكر يُطرح علينا يتطلب منا البحث عن مصدره وكيف نشأ هذا الفكر أو المعتقد الذي نتبعه بشكل أعمى دون التأكد من مصداقيته، أسطورة بروتيه تدعو في عمقها إلى البحث عن جوهر الشيء والبُعد عن الفكر المسطح الذي يجعلنا في حالة جهل وتأخر عن مواكبة التطور.
السفينة ما زالت تُبحر.. قد تجاوزت العاصفة ولكنها تحتاج لرؤية جديدة لمواكبة تطورات المرحلة الراهنة وإعادة بناء العقول المشتتة، نحتاج للحب.. للعلم، والفكر اليقظ، نحتاج لمزيد من الوعي لأن العاصفة ستهب من جديد.
مع حبي