هل يعمل ترامب بوصايا الأميركيين الأوائل ويتّعظ؟.. بقلم: علي دريج

هل يعمل ترامب بوصايا الأميركيين الأوائل ويتّعظ؟.. بقلم: علي دريج

تحليل وآراء

الخميس، ٢٥ يوليو ٢٠١٩

مع تصاعد وتيرة التوترات في منطقة الخليج العربي وتلويح بعض الرؤوس الحامية في الولايات المتحدة الأميركية بحرب على إيران، بعد توجيه الاتهام إليها بالحوادث المفتعلة التي وقعت في الآونة الأخيرة، يحبس العالم أنفاسه خوفاً من انزلاق الأمور إلى المواجهة، ويحتدم الجدال مجدداً، داخل أروقة الإدارة الأميركية والأوساط السياسية والفكرية والإعلامية بين من يحذر السير في هكذا خيار، لخطورته الشديدة على أميركا والعالم برمته، وما يعتقده المتلهفون للحرب بقدرة واشنطن على الحسم والتحكّم بمسارها.
غنيّ عن التعريف، أن فريق الحرب يضمّ الصقور في إدارة ترامب كمستشار الأمن القومي جون بولتون، ووزير الخارجية مايك بومبيو مع عدد كبير من أعضاء البنتاغون في الحزب الجمهوري واللوبي الصهيوني، إضافة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فيما المعارضون يشكلون خليطاً من المسؤولين العسكريين والأمنيين والدبلوماسيين الحاليين والسابقين، وأكاديميين وباحثين من مراكز الدراسات الأميركية المرموقة.
الجميع في الولايات المتحدة يسلّم بالنتائج الكارثية التي ستخلّفها الحرب إن وقعت، ومع ذلك يصرّ الصقور على صوابية رؤيتهم القائمة على المواجهة، ويتباهون بتفوق القدارت العسكرية الأميركية ويتغنّون بالفارق الهائل من حيث تطورها التكنولوجي عن ما تملكه طهران، لذا يواصلون تحريضهم لدونالد ترامب وحثّه على السير بطروحاتهم الداعية إلى ضرب إيران وتغيير النظام فيها، خصوصاً بولتون الذي قطع وعداً بالاحتفال في طهران في عام 2019 (بعد خلع السلطة الدينية). كما أنهم لا يتركون فرصة إلا ويستغلّونها لدفعه إلى خوض الحرب، ويمسكون بأذنيه ليل نهار لتحقيق غايتهم تلك والتي تعود بمجملها إلى خفليات دينية عقائدية إنجيلية، والتي اعترف بولتن بتأثيرها على توجهّاته السياسية العالمية.
بالنسبة إلى ترامب، التجربة معه، تقودنا إلى أنه لا يمكن الأخذ بكلامه (لا يتردّد أحياناً بقول الشيء ونقيضه، فهو تارة يؤكد ويشدد مراراً وتكراراً على أنه لا يريد الحرب ويعلن استعداده للحوار مع طهران، وطوراً يهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور)، للبناء على حتمية أو استبعاد وقوع الحرب، وذلك بشهادة مسؤولين في البنتاغون الذين رأوا أن: «الشيء الوحيد الذي يوقف [الحرب] هو تفضيل ترامب عدم الانخراط في المنطقة مرة أخرى»... لكننا نعرف جميعاً أنه غير متزن ويمكنه تغيير رأيه بسهولة. وبوجود مساعدين متشدّدين إلى جانبه، مثل بولتون وبومبيو، هناك فرصة لإقناعه بألّا يبدو ضعيفاً وأن يشترك في النصر.
ما يثير قلق المسؤولين والسياسيين والخبراء المعارضين للحرب، هو أن بولتون يعمل على الاستحواذ على القرار في ما يتعلق بإيران، وهو ما أكّدته جريدة «واشنطن بوست» في مقال نُشر في حزيران الفائت، وتحدثت فيه عن «كيفية سيطرة بولتون على السياسة الإيرانية، وفرضه قيوداً صارمة على المعلومات التي تصل إلى الرئيس، وتقليصه بشكل حاد الاجتماعات التي يعقدها مع كبار المسؤولين في غرفة المواقف بالبيت الأبيض لمناقشة السياسة».
صراع من شأنه أن يجعل حرب العراق تبدو كأنّها نزهة بالمقارنة مع إيران
 
أكثر من ذلك، مجلة «بوليتيكو» الأميركية نقلت في تقرير لها عقب أزمة طائرة التجسس الشهر الماضي، عن مسؤول سابق في وزارة الدفاع قوله إن «بولتون يقود سياسة كل شيء»، وكشفت «كيف أنه قام وأعضاء مجلس الأمن القومي باستدعاء موظفي البنتاغون من المستوى الأدنى، وأظهروا أنفسهم أمامهم وكأنهم الممسكون بالقيادة». لا ينكر أحد أن الضغوطات المالية والاقتصادية المتصاعدة على إيران، يقف وراءها بولتون وبقية الصقور بشكل رئيسي، حيث يسجل لهم تأثيرهم على قرار ترامب بمضاعفة العقوبات، لكن ذلك لا يعني نجاحهم بعد باستمالته كلياً إلى معسكر الحرب وتوريطه في هذه المغامرة، فموقفه ما زال يتناغم حتى الآن مع الفريق المعارض للحرب مع عدم استبعاد حدوثها بالمطلق، والذي قد ينجم عن سوء تقدير قد يرتكبه أحد الطرفين وهو ما يتخوّف منه أنصار «القوة الناعمة» في الإدارة الأميركية.
من المعروف أن للحرب مقدمات وشروطاً وفي بعض الأحيان ذارئع للبدء بها. بناءً على تصريحات إدارة ترامب والسياسات الأميركية السابقة، قد تختار واشنطن خوض الحرب لثلاثة أسباب: أولها: اقتراب إيران من الحصول على سلاح نووي، ثانيها: أن تقرر الولايات المتحدة الإطاحة بالنظام الإيراني، وثالثها: قيام إيران بهجوم ضخم على الأميركيين، وهذا سيؤدي إلى ردّ أكبر في المقابل. لنبدأ من القضية النووية، فسياسة الإدارات الأميركية المتعاقبة والحالية، كانت وما زالت ثابتة على عدم وجوب امتلاك إيران سلاحاً نووياً. لهذا السبب وقّع الرئيس باراك أوباما على الصفقة النووية الإيرانية لتأجيل طريق طهران إلى القنبلة. ثم جاء ترامب وألغى الاتفاق، وأنعش أمل المراهنين على الحرب باعتبارها الخيار الأوحد الذي سيمنع حكّام طهران من الحصول على القنبلة. لكن على المقلب الآخر، ثمة آراء مناقضة، ريتشارد نيبو، مهندس الاتفاق النووي الإيراني، يقول في حديث صحافي ردّاً على سؤال عن إمكانية منع الولايات المتحدة لإيران من الحصول على قنبلة نووية إذا ما أرادت ذلك حقاً؟ «يمكننا على الأرجح تدمير البرنامج الحالي بضربات محدودة. لكن لا يمكننا منع إيران من إعادة تشكيل هذا البرنامج. لذلك يتعيّن علينا إما أن نهاجم مرّة أخرى في المستقبل للتعامل مع برنامج نووي معاد تشكيله أو الموافقة على امتلاك إيران لسلاح نووي». ويضيف أن «مهاجمة إيران يمكن أن تجبرها فعلاً على متابعة القنبلة بشكل جديّ من أجل ردع المزيد من الضربات الأميركية».
«إيران حصن»
أمّا مسألة الغزو الأميركي لإيران لتغيير النظام فيها، والتي يجاهر بها بولتون والصقور، فهي أقرب إلى أفلام الخيال العلمي منها إلى الواقع. وكالة «ستراتفور» للاستخبارات الخاصة بإيران تصف الجمهورية الإسلامية بأنها «حصن» يصعب غزوها من جميع الجهات. فالجغرافيا تشكّل عائقاً إيجابياً لصالح إيران أمام أي قوات غازية. فهي من جهة محاطة بسلسلة من الجبال الوعرة الممتدّة على طول حدودها، كما أن الدخول إليها من الجانب الأفغاني في الشرق يعني اجتياز عدد من الصحارى التي ستصعّب المهمة على أميركا. كما أن محاولة النفاذ من الغرب صعبة أيضاً حتى مع تركيا التي لم تسمح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها لغزو العراق سابقاً، فكيف بإيران التي تربطها بها علاقات استراتيجية واقتصادية ومصالح تجارية تفوق الـ30 مليار دولار في العام.
من ناحية ثانية فإن غزو إيران، يعتبر الأكثر خطورة، فالتحضيرات اللوجستية التي تحتاج لها هذه الخطوة تبدو محيرة للعقل برأي إريك بروير، نائب مدير «مركز الدارسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن» وزميل في مشروع القضايا النووية التابع لبرنامج الأمن الدولي في المركز المذكور (وهو كان عمل في إيران)، الذي أكد أنه «ليس هناك غزو مفاجئ لإيران، وأي محاولة لذلك ستظهر على بعد أميال».
أيضاً، تشير وكالة «ستراتفور» في تقرير لها إلى أنه «إذا اختار ترامب التوغّل في إيران، فمن المحتمل أن يحتاج إلى حوالى 1.6 مليون جندي للسيطرة على العاصمة والبلد، وهي قوة كبيرة جداً تفوق قدرة أميركا على توزيعها في قواعدها الإقليمية».
وفي السياق نفسه، لفتت صحيفة «واشنطن بوست» في أيار الماضي، إلى أن أميركا تفتقر لخيار واقعي على الأرض في إيران، فهي أكبر بكثير من العراق (يبلغ عدد سكان إيران 83 مليوناً، وتقدّر مساحتها بحوالى 617,000 ميل مربع، في حين كان عدد سكان العراق في عام 2003 ما يقرب من 30 مليون نسمة، ومساحتها حوالى 170,000 ميل مربع). تضيف الصحيفة «استناداً إلى معادلة «كثافة القوة» التي خلص إليها المحلل في مؤسسة «راند» جايمس كوينليفان ونشرها خلال الفترة التي سبقت غزو العراق، كان النجاح في معالجة الاستقرار بالعراق، يتطلب 20 جندياً لكل 1000 نسمة، وبالتالي فإن الولايات المتحدة وحلفاءها احتاجوا آنذاك فعلياً، إلى حوالى 600000 جندي في العراق. بينما لم يكن هناك أكثر من 180 ألفاً». وإذا أردنا تطبيق هذه المعادلة على إيران بحسب الصحيفة، فالسيطرة عليها ستحتاج إلى أكثر من 1.6 مليون جندي. وهذا أكثر من ضعف القوة الفعلية للخدمة الفعلية (656403) من سلاح مشاة البحرية والجيش الأميركي مجتمعة، عدا عن ذلك فإن عدداً قليلاً من حلفاء الولايات المتحدة سيساعدونها في حربها تلك. أما الاستنتاج الذي تخلص إليه الصحيفة فمفاده أنه «ربما يمكنك إسقاط الحكومة الإيرانية بعدد أقل بكثير من القوات. لكن إذا غادرت بعد ذلك مباشرة، كما فضّل بولتون في العراق، فقد تكون النتيجة إما الفوضى على غرار ليبيا أو ظهور نظام جديد مناهض لأميركا».
يقول خبير الشرق الأوسط في «مؤسسة القرن» في نيويورك ميشال حنّا، إنه «من غير المرجح أن يستسلم الإيرانيون... يكاد يكون من المستحيل تخيّل أن الحملة الجوية الضخمة ستؤدي إلى النتيجة المرجوة. إنها ستنتج فقط التصعيد وليس الاستسلام». ويوضح حنا أن «الوابل المستمر للغارات الجوية، سيؤدي إلى مقتل المئات من الإيرانيين، ومن بينهم مدنيون أبرياء. وذلك، من بين أمور أخرى، يمكن أن يحفّز المجتمع الإيراني على الوقوف ضد الولايات المتحدة ويضعه بحزم خلف النظام».
وعليه إذا كان البيت الأبيض يهدف إلى إزالة القيادة الإيرانية بشكل دائم، فسوف يحتاج إلى شن غزو على نطاق أكبر من الغزو في العراق، وحينها ستقع أكثر الحروب فظاعة في التاريخ الحديث، وستؤدي إلى موت مئات الآلاف من الأشخاص، وهو ما حدا بالكثير من الخبراء إلى التحذير من الأمل أو الافتراض أن الغزو العسكري الشامل بقيادة الولايات المتحدة سيدفع الإيرانيين إلى الإطاحة بنظامهم الإسلامي وتحويل إيران إلى حليف أميركي، ويلفتون الانتباه إلى أن محاولة إزالة قيادة البلاد بالقوة قد ترفع مجموع الضحايا إلى الملايين.
وفي الإطار ذاته، يقول ماكس بوت، وهو كاتب عامود يومي في «واشطن بوست» ومختص في قضايا الأمن القومي في مقال في 20 أيار الفائت: «لقد قضيت الأسبوع الماضي في دراسة القدرات الإيرانية، ولا أرى أي خيار عسكري يمكن اعتباره حاسماً أو منخفض التكلفة. بدلاً من ذلك، فإن ما أراه هو صراع من شأنه أن يجعل حرب العراق - التي أشعر بأسف شديد الآن لدعمها سابقاً - تبدو وكأنها نزهة بالمقارنة مع إيران».
أما ما يجدر التوقف عنده في هذه القضية، كلام الجنرال ديفيد بترايوس القائد الأسبق للقيادة المركزية في الجيش الأميركي والذي شغل كذلك منصب رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، الذي رأى أن «صقور إيران اليوم، داخل وخارج إدارة ترامب، ليس لديهم أي فكرة عن كيفية انتهاء الحرب مع تلك الدولة. الأفضل، في هذه الحالة، عدم المجازفة ببدئها».
إضافة إلى ما تقدم، ينقل إيلان غولدنبرغ، الخبير الإيراني في «مركز الأمن الأميركي الجديد» في واشنطن، عن مسؤولين في ممالك الخليج العربي التقاهم مؤخراً، «أن لا أحد منهم يريد وقوع هذه الحرب» التي ستطال ارتداداتها أوروبا التي ستشهد أزمة نزوح جديدة، لكن هذه المرة تفوق سابقاتها خصوصاً السورية، فضلاً عن ذلك فإن إسرائيل ستجد نفسها في دائرة النار، وستتلقى الآلاف من الصواريخ من قبل حلفاء إيران وفي مقدمهم حزب الله، وهذا ما يؤرق الجنرلات الصهاينة ومن ورائهم الولايات المتحدة التي سيتحتم عليها وضع هذا الأمر في حساباتها قبل الإقدام على أي عمل حربي».
أما افتراض ترامب وإدارته أن الحرب ستقع إذا هاجمت إيران القوات الأميركية، فهو يصنّف في خانة المستحيلات، فإيران تؤكد وتصرّح يومياً أنها لن تكون البادئة بأيّ حرب، ولن تقوم بالاعتداء على أحد، طالما أن الآخرين لم يبادورا إلى ذلك. المسؤولون الأميركيون متيقّنون من حكمة قادة إيران، وأشاروا إلى ذلك بالقول: «من شبه المؤكد أن الجمهورية الإسلامية تدرك أن أيّ إجراء يعرّض القوات الأميركية أو الدبلوماسيين أو المواطنين العاديين لخطر قاتل سيوفر لمستشاري ترامب مثل بولتون أو بومبيو الذريعة المناسبة واللازمة للضغط بقوة أكبر للحرب».
السيناتور الأميركي كريس مورفي، الناقد الصريح لسياسة ترامب الخارجية وعضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ كتب تغريدة قال فيها: «أنا أستمع إلى تحريف الجمهوريين لإيران، لجعل الأمر يبدو كما لو أن إيران تتخذ إجراءات غير مبررة ومسببة ضد الولايات المتحدة وحلفائنا. مثل ذلك خرج للتو من العدم. لن يزودني مسؤولو الدفاع والمخابرات الأميركيون المطّلعون على المعلومات بأي معلومات أكثر مما هي متاحة للجمهور بالفعل».
أسباب تجنّب الحرب
يراهن الفريق المعارض للحرب ومعه أنصار «القوة الناعمة» على أن لدى ترامب بعض الأسباب الوجيهة والمهمة التي تجعله يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن أي صراع عسكري كبير، مع إدراكه أن هذا سيثير غضب بعض مؤيّديه الأكثر حماسة للحرب، في مقدمتهم الفريق «باء» أي بولتن ونتنياهو كما وصفه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وتتلخّص هذه الأسباب بالآتي:
أولا: تقديره لإدارة بوش: رأى ترامب في السنوات الأخيرة مراراً وتكراراً أن حرب بوش كانت خطأ فادحاً. واعتبر في عام 2016، في مرحلة النقاش الجمهوري إبان حملته الانتخابية، أنها «ربما كانت أسوأ قرار» في تاريخ الرئاسة. وكرّر هذا التقييم بعد فوزه بالرئاسة، قائلاً في عام 2018 إنه كان «أسوأ قرار منفرد تم اتخاذه». لذا باعتقاد المعارضين، أن الرئيس لا يريد تكرار هذا القرار عن طريق التورط في حرب إلى الأبد مع جارته الأكبر في العراق.
ثانياً: الاقتصاد: مع انطلاق حملة إعادة انتخابه، وعى ترامب أن حالة الاقتصاد الأميركي (المزدهر والمستقر) هو أفضل شيء من أجل تحقيق هدفه هذا، مدركاً أن حرباً جديدة كبرى ستعرّض ذلك للخطر. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أسعار النفط بعد أن هدّد ترامب إيران في تغريدة قائلاً إن طهران «ارتكبت خطأً كبيراً للغاية!» بإسقاطها طائرة أميركية بدون طيار. من المحتمل أن ترامب كان على استعداد للمخاطرة باضطراب السوق على بعض الجبهات - مثل حربه التجارية مع الصين- لكن الحرب الواسعة النطاق قد تعني المزيد من عدم الاستقرار والمخاطر التي لا تغيب عن حساباته، كونها ستطيح حتماً بطموحه في التجديد الرئاسي له. إن القيام بذلك من شأنه أن يرسل سوق الطاقة العالمي إلى نقطة تحول ويسبب أزمة عالمية.
ثالثاً: «الأميركيون الأوائل»: على الرغم من أن الفصيل المهيمن في الحزب الجمهوري قد دعم لعقود من الزمان دوراً قوياً للولايات المتحدة في الخارج، لكن كان هناك أيضاً ضغط من رجالات السياسة الذين يعتنقون الفكر المحافظ ويتبنّون شعار«أميركا أولاً». هؤلاء جادلوا بأن على الولايات المتحدة ألّا تعمّق تورّطها في النزاعات البعيدة وآن لها أن تتّعظ من الأرواح الأميركية التي زُهقت بعد قرابة عقدين من الحروب التي أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001. دافع ترامب صراحة عن هذه النظرة العالمية خلال حملته الانتخابية، وأكد باستمرار على هذا الشعار خلال خطاب تنصيبه، وفي مؤتمرات السياسة الخارجية العالمية، وفي اجتماعاته مع قادة العالم الآخرين... بعض الشخصيات البارزة المرتبطة الآن بخط التفكير هذا كانت من بين أكبر مشجعي ترامب، مثل تاكر كارلسون ولورا إنغراهام وآن كولتر. الكثير منهم حثّ، ترامب على عدم السماح لمؤسسة الحزب الجمهوري بتحفيزه على شن حرب مع إيران «يجب أن نكون حذرين من فعل أي شيء من شأنه أن يجذبنا إلى صراع آخر طويل الأجل في المنطقة»، هذا ما قالته إنغراهام في برنامجها الخاص في مؤسسة «فوكس» الإخبارية.
رابعاً: الانتخابات القادمة: إن الفترة التي تفصل ترامب عن انتخابات 2020، أقل من عام ونصف العام. وهو كان وعد بتجنّب التشابكات الأجنبية الجديدة، وسيريد على الأرجح القول بأنه حافظ على هذا الوعد. أما إذا قدم النزعة العدوانية تجاه طهران، فيمكنه بدء صراع قد يخرج عن نطاق السيطرة، وبالتالي لا يمكن حلّه بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أي موعد الانتخابات.
البعض يتساءل عما إذا كانت الحرب قد تساعد فعلياً في إعادة انتخاب ترامب مستغلاً «التفاف الأميركيين حوله في أوقات الأزمة الوطنية». لكن هذا أمر مشكوك فيه، إذ أظهر استطلاع للرأي أجرته وكالة رويترز/ إيبسوس في 21 أيار/ مايو الماضي، أن الدعم الأميركي لمهاجمة إيران يعتمد إلى حد كبير على الجانب الذي يُنظر إليه على أنه المعتدي - لذلك سيواجه ترامب تحدّياً بإقناع غالبية الجمهور الذي لا يوافق معه بأن الحرب مبرّرة.
خلال الأزمة الكورية أطلق ترامب عبارات عدائية قاسية تجاه بيونغ يانغ، وانتهى به الأمر بمحاورة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ، ويحاول الآن إعادة تبنّي هذه النهج مع طهران للظهور بمظهر الرئيس القوي على أمل دفع طهران إلى التنازل. الأمر المطمئن، هو أن كلاً من الكونغرس والصحافة يرفضون أخذ مطالبات الإدارة بإجراءات ضد التهديدات الإيرانية المزعومة، وبدلاً من ذلك يدفعون إدارة ترامب لدعم هذه المزاعم مع دليل فعلي.
في المحصلة يبدو أن النتيجة المثالية لترامب هي في أن يصوّر نفسه أمام الأميركيين والعالم على أنه «قاسٍ للغاية» دون الاضطرار إلى التعامل مع حرب طويلة الأمد، ومستمتعاً في الوقت ذاته، بفرض عقوبات غير مسبوقة على إيران وخنقها اقتصادياً، ولكن إذا قرر أنه فشل في تحقيق ذلك، فمن غير الواضح ما هي الخطوة التالية التي سيتخذها...