تركيا.. والخيارات الصعبة.. بقلم: سركيس أبوزيد

تركيا.. والخيارات الصعبة.. بقلم: سركيس أبوزيد

تحليل وآراء

الأحد، ٥ مايو ٢٠١٩

تجددت الأزمة بين الولايات المتحدة وتركيا، وھي الى تصاعد، على خلفية إصرار أنقرة على إتمام صفقة شراء منظومة “إس 400” الدفاعية من روسيا المقرر أن تتسلمھا في تموز وتنشر منصاتھا على أراضيھا في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. وكانت وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” ھددت تركيا بمواجھة “عواقب خطيرة” في حال أصرت على شراء المنظومة الروسية، شملت فرض عقوبات عليھا وحرمانھا من نظام “باتريوت” الصاروخي وطائرات “إف – 35 ” الحربية الأحدث في العالم، ومن توريد المعدات العسكرية لھا. يحدث ذلك بالتزامن مع نتائج الانتخابات المحلية في تركيا والتي تعرض فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الى إنتكاسة شعبية ھي الأوضح منذ وصوله الى سدة الزعامة المطلقة قبل نحو عشرين عاما.
في الواقع إن ما يقلق الولايات المتحدة من شراء تركيا المنظومة الدفاعية الروسية:
ـ أن ھذه المنظومة تشكل مشكلة أمن قومي بالنسبة الى الحلف الأطلسي لأنھا تضر بتكنولوجيا “الناتو”، إذ لن يتمكن من نشر مقاتلات من طراز “إف 35 ” الملقبة بـ”الشبح” في ظل ھذه الأنظمة الروسية، التي ھي أخطر مما يعتقده العالم، إذ تستطيع إسقاط جميع الأھداف الجوية بما فيھا الطائرات الشبحية وطائرات الإنذار المبكر الأميركية، إضافة إلى قدرتھا على ضرب الطائرات قبل إقلاعھا من حاملات الطائرات في حالة الحرب.
ـ أن روسيا ستكون الرابح الأكبر من ھذه الصفقة، لأنه يعني تفوّق من “إس 400 ” على “الباتريوت” وخرق روسي لحلف الناتو عسكريا.
ـ أن إقتناء تركيا لھذه المنظومة قد يشجع دولا أخرى في الاتحاد الأوروبي على الحصول عليھا في إطار دمج ھذه المنظومة في دول الحلف، ما يسھم بشكل كبير في إعادة موسكو للمنافسة العالمية في مجال التسليح.
بينما حقيقة الأمر أن تركيا تھدف من شراء ھذه المنظومة الى:
ـ تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، فھناك مصالح مشتركة تبلورت مؤخرا بين الدولتين: مصالح جيو سياسية تتمثّل في الشراكة الروسية – التركية في سوريا عبر إتفاق خفض التصعيد العسكري وتفاھمات آستانة وسوتشي، واتفاق الدولتين على ضرورة خروج الولايات المتحدة من سوريا حفاظا على وحدتھا الجغرافية. بالاضافة الى مصالح اقتصادية تتمثّل في إرتفاع حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلى 50 مليار دولار سنويا. وهناك مصالح “طاقوية” عبر إستغلال روسيا تحالفھا الناشئ مع تركيا في التفوّق على الغرب في الصراع بينھما على الغاز وممراته وعقدة مواصلاته بين الدول والقارات.
ـ الضغط على الولايات المتحدة في ملف الأكراد في سوريا، فالولايات المتحدة ما زالت تدعم الأكراد، وتركيا ترى فيھم إمتدادا لحزب العمال الكردستاني التي تصنّفه تنظيما إرھابيا وتھديدا مباشرا لأمن تركيا القومي ووحدتھا الجغرافية. وروسيا تتفق مع رفض أنقرة لإقامة أي كيان كردي على الحدود الجنوبية لتركيا.
توتر العلاقات بين صناع القرار التركي والأميركي وضع تركيا أمام وضع ھو الأصعب، فتركيا لا تعتبر فقط بمثابة مشتر لطائرة “إف 35 “، بل دولة محورية في برنامج تطوير وصناعة ھذه الطائرة، وإذا طبق الأميركيون قرار الإيقاف المؤقت لھذه الصفقة، فإن ذلك سيؤدي إلى وقف إنتاج الطائرة بشكل فعلي، أو إعاقة إنتاجھا كون تركيا شريكة في المشروع وھي عنصر رئيسي في صناعة الطائرة، وسيقطع الطريق على وجود الضباط والخبراء الأمنيين الأتراك في غرف التخطيط الإستراتيجي لـ”الناتو”، تجنبا لوقوع عملية تسرّب للمعلومات والخطط الحربية والاستخباراتية. كما سيؤدي الى خسائر بمليارات الدولارات دفعتھا تركيا مقابل إستلامھا أول مجموعة من ھذه الطائرات. وفي حال إتخاذ أي خطوة باتجاه منع أو تأخير تسليم الطائرة إلى تركيا، يتوقع أن تخوض تركيا معركة قانونية مع الإدارة الأميركية من خلال القضاء الدولي باعتبارھا شريكا أساسيا في المشروع وساھمت في مراحل التطوير بمبالغ مالية كبيرة.
صحيح أن تركيا تمتلك أوراق ضغط على الولايات المتحدة، ولكن الولايات المتحدة أيضا تمتلك أوراق ضغط على تركيا أيضا، ويمكنھا أن ترد من خلال زيادة دعمھا العسكري واللوجيستي للأكراد وتثبيت مواقعھم في الشرق السوري، كما أنھا قادرة على فرض عقوبات اقتصادية قاسية على تركيا تدمّر قيمة الليرة التركية.
في نفس الوقت أردوغان يدرك جيدا أن الإبتعاد عن الغرب سيكون بمثابة ضربة قاسية لتركيا وسيؤدي إلى المزيد من التدھور الاقتصادي في البلاد وفقدان ثقة المستثمرين في الاقتصاد التركي، لذا فإن أردوغان سيحاول بعد إنتھاء الانتخابات المحلية في بلاده إقناع واشنطن بقبول حل وسط أو المقايضة في بعض الملفات لحل النزاع بينهما.
فبعد أعوام من السيطرة على القرار السياسي التركي والإنتصارات الانتخابية المتواصلة لحزب العدالة والتنمية، شكلت الإنتخابات البلدية ضربة قوية للحزب الحاكم في ضوء خسارته في كبرى المدن التركية، أنقرة واسطنبول وأنطاليا وأضنة وأزمير. إلا أن خسارة مدينة اسطنبول كانت ضربة سياسية ومعنوية كبيرة وموجعة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي صعد نجمه منھا.
إنعكاسات نتائج الإنتخابات على السياسات الداخلية معروفة ويمكن التنبؤ بھا، فأردوغان إلتقط الرسالة سريعا، وأعلن أنه سيعمل على تحديد أوجه التقصير والعمل على إصلاحھا، وأن أولويته خلال الفترة المقبلة ستكون تعزيز الاقتصاد وزيادة فرص العمل، لإدراكه أن الصعود الاقتصادي الذي تحقق في تركيا خلال فترة حكم العدالة والتنمية كان من أھم الأسباب التي جعلته يحتفظ بالحكم حتى الآن، ولكن انعكاساتھا على سياسته الخارجية تبقى مبھمة ومفتوحة على إحتمالات كثيرة، ومنھا:
ـ العودة إلى الحضن الأميركي مجددا لتفادي غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمزيد من العقوبات الإقتصادية التي قد تعقد المشھدين الإقتصادي والسياسي
ـ التوجه نحو تعزيز التحالف مع روسيا بمزيد من الإتفاقيات الإستراتيجية، وخاصة الإقتصادية والتجارية والعسكرية لتفادي العقوبات الأميركية التي قد تتزايد مع التقارب الروسي التركي.
لكن من المتوقع أن تُحل الأزمة بطريقة أو بأخرى في المستقبل، فمن الصعب على تركيا خسارة أميركا في ھذه المرحلة المعقدة التي تشھد ترتيبات جديدة للمنطقة، وكذلك لا تستطيع واشنطن تحمّل النتائج التي يمكن أن تترتب عليھا خسارة تركيا. ومن المرجح أن تقوم تركيا بالإبقاء على السياسة المتبعة ذاتھا، أي السير مع روسيا ومسايرة الولايات المتحدة في آن واحد، وھو الخيار الأكثر رجحاً لإنھاء الأزمة بين الحليفين، وذلك تفادياً من إحتمال إتساع الشرخ وتحوله إلى خصومة وعداء سياسي وأيديولوجي ثابت.
العهد