برسم قمة تونس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

برسم قمة تونس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٩ أبريل ٢٠١٩

«هل يعقل أن يصدر عن القمة العربية موقف أدنى بشأن الجولان السوري المحتل من موقف بريطانيا»؟ التصريح السابق جاء على لسان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم في سياق المؤتمر الصحفي الذي جمعه إلى نظيره الفنزويلي خورخي ارياسا في دمشق الخميس الماضي.
لم تكن القمم العربية وهي التي بلغت ربيعها الثلاثين في تونس في أي يوم من الأيام فاعلة في الأحداث، وإنما كانت منفعلة بها على الدوام، كانت شاهد عيان يوثقها لكنه يقف عاجزاً أمام ترك أي بصمة في مسارها وما يمكن أن تؤول إليه، وهذا الأثر لا يتأتى من أن المجتمعين، وما يمثلونه، لا وزن لهم، أو لا أهمية للقدرات التي يتحكمون بها بشتى صنوفها، وإنما يتأتى ذلك عبر حزمة من العوامل المتعددة يمكن اختصارها بأن أغلبيتهم كانوا يتخذون وضعية الطالب الذي يجلس في قاعة امتحانة وإلى جانبه «موبايله» في الوقت الذي يقف فيه زميله خارج القاعة ويملي عليه الأجوبة لينحصر دور الطالب عندها بإفراغها على الورق.
تاريخ القمم العربية، وملحقاته من العمل العربي المشترك، فيه الكثير مما يمكن توصيفه بالكارثي، ومن الممكن أن نفرد لها آلاف الصفحات لكننا سنعمد إلى تثبيت الكاميرا في هذه السردية على بضع لقطات علها تساعد في رسم مشهد نرمي إلى رسمه تدعيما لتساؤل الوزير المعلم سابق الذكر.
نشأت فكرة جامعة الدول العربية على خلفية تداعي الزعماء العرب لدعم ثورة عز الدين القسام الذي انطلق من مدينة جبلة الساحلية لنصرة الثورة التي اندلعت في فلسطين العام 1936، آنذاك تلاقت تلك الدعوة مع رياح بريطانية، وهذا لا يضير الفكرة أو يخونها، كانت تسعى لندن من خلالها إلى استثمار مد الشعور القومي العربي الذي تأجج في أعقاب الثورة على العثمانيين 1916 ولما تهدأ جذوته بعد، في تشكيل سد مانع أمام التمدد السوفييتي، أي الشيوعي، الرامي إلى الوصول للمياه الدافئة، وهذا الأخير تثبته عشرات الوثائق التي عرض لها المؤرخ العراقي نجدة فتحي صفوة في كتابه «من نافذة السفارة».
انعقد المؤتمر التأسيسي في بلودان غرب دمشق عام 1937، وبالنتيجة فقد أخفق المجتمعون في دعم ثورة القسام التي بقيت عارية إلا من دعم بعض المتطوعين، وعندما تبدى في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي أن الخطر لم يعد جاثما فحسب بل متحفزا أيضاً، تداعى الزعماء العرب إلى توقيع ميثاق الشرف في القاهرة 22 آذار 1945 وفيه أقسموا على حماية فلسطين من الضياع، وللمرة الثانية لم يبر الزعماء العرب بقسمهم فقد تركوا جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي بلا ظهير أو سند، وهو ما تمخض عنه الإعلان عن قيام دولة الاحتلال في مساء الجمعة 14 أيار 1948 وإن كان قد اصطلح على اعتبار اليوم التالي هو يوم ولادة ذلك الكيان.
قبيل يوم واحد من إعلان الرابع عشر من أيار الذي جاء على لسان ديفيد بن غوريون، كان الملك عبد الله الأول ملك الأردن، كما يروي محمد حسنين هيكل، قد خرج إلى سهل أريحا يستعرض جيشه الذاهب للدفاع عن فلسطين لحمايتها «بدا المشهد مهيباً، سهل أريحا منبسط وتلال الخان الأحمر تبدو من بعيد غامضة مثقلة بعبء الأساطير، وفرقة الجيش الأردنية تعزف موسيقاها، والملك واقف على منصة مرتفعة تحيط به أركانات جيشه وعلى رأسهم غلوب باشا، «ثم يضيف»: نادى الملك على إمام مسجد عجوز ضرير كان قد دعي إلى حضور ذلك الاحتفال المهيب، وقال له: أيها الشيخ عظ الجيش، وقف الشيخ وهو لا يرى شيئاً، لكنه كان يحس بكل شيء، ثم صمت للحظات والكل معلق به، ثم صاح منادياً: أيها الجيش ليتك لنا»، وبالفعل لم يكن ذلك الجيش لنا.
لم يستطع العرب في المعارك التي خاضوها بعقلية لم تكن تناسب روح العصر أن يربحوا في ميادين القتال، ولا هم استطاعوا فهم دهاليز السياسة كما يجب، وكنتيجة للفشلين لم يستطيعوا شطب لحظة 14 أيار من التاريخ، ولا هم قبلوا بقرار التقسيم 191 لعام 1947 الصادر عن مجلس الأمن، كان ذلك القرار يعبر عن لحظة توازن دولية يمكن لها أن تمنح فرصة لالتقاط الأنفاس في الوقت الذي لم تكن موازين القوى العسكرية قادرة على أن تفعل، وما جرى هو أن اللحظة كانت قد أفرزت شقاقاً وخلافاً في الرؤى كبيراً استدعى بدوره تفاوتاً في المواقف التي أضحت ازدواجيتها فاضحة فيما بين المعلن والمستور منها.
يروي هيكل أيضاً أنه وعشية انعقاد القمة العربية في الرباط عام 1964 حدث أن جرى اجتماع بين الاستخبارات المغربية ونظيرتها الإسرائيلية في باريس قبيل انعقاد القمة بقليل، وفي ذلك الاجتماع طلب رئيس الوفد الإسرائيلي من نظيره المغربي تسجيلات مصورة لكلمات الزعماء العرب التي ستلقى في الاجتماع المغلق بعيداً عن الإعلام، فما كان من رئيس الوفد المغربي إلا أن أبدى تعجبه متسائلاً عن لزوم تلك التسجيلات طالما أن محاضر الجلسات، وكذا كلمات الزعماء العرب، تصل إلى تل أبيب كاملة وهي غير منقوصة؟ أجاب رئيس وفد الموساد برد مفحم ومفاجئ: إن للوجوه وهي تنطق بالكلمات معاني أخرى لا توفرها السطور الجامدة التي ينقلها الورق، ثم أنه في لحظه معينه، يضيف رئيس وفد الموساد، تجد أن الكلمات لا تعني شيئاً، وإنما المعنى كله يصبح في النغمة التي قيلت فيها تلك الكلمات!
يتابع هيكل ويقول: إنه وعلى الفور جرى استصدار أمر ملكي من الملك الحسن الثاني يقضي بإحداث مؤسسة إعلامية أطلق عليها اسم «أطلس» لتقوم بالمهمة المناطة بها، وأن أطلس أدت مهمتها على أكمل وجه، وهي لم تختف عن الوجود إلا في عام 1976 عندما أضحى السادات في القفص، حينها أضحى القفص أكثر جدوى من أطلس.
كرست مقررات الرباط زعامة عبد الناصر وتراصف أغلبية الدول العربية وراء مشروع مواجهة العدوان، كان ذلك تهميشاً لمشروع، ودور، سعودي هو النقيض من المشروع السابق وهو ما دفع بالرياض إلى سياقات الدفع بكامل المنطقة نحو الهاوية.
يورد الكاتب حمدان حمدان في كتابه «عقود من الخيبات» وثيقة يعود تاريخها إلى 27 كانون الأول 1966 وهي تحمل الرقم 342 من وثائق مجلس الوزراء السعودي المنعقد برئاسة الملك فيصل بن عبد العزيز، وقد جاءت بصيغة رسالة إلى الرئيس الأميركي ليندون جونسون آنذاك وهي تحوي الكثير من الطلبات لكن من أهم ما طلب فيها:
1- أن تقوم الولايات المتحدة بدعم إسرائيل لشن هجوم خاطف على مصر تستولي من خلاله على أماكن حيوية فيها فتضطر الأخيرة إلى سحب جيوشها من اليمن.
2- سورية أيضاً يجب ألا تسلم هي الأخرى من الهجوم مع التأكيد على اقتطاع أجزاء من أراضيها كيلا تتفرغ فتندفع لسد الفراغ بعد سقوط عبد الناصر.
3- لابد من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة لكي لا يبقى للفلسطينيين أي مجال للتحرك.
4- تقوية الملا مصطفى بارزاني في شمال العراق بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال حكومة بغداد مع الإشارة إلى أن السعودية قد قامت بدعم هذا الأخير بالأسلحة بدءاً من عام 1965.
بعد هذه الوثيقة بـ160 يوماً حدث عدوان حزيران 1967 ونحن هنا لسنا بوارد الأسباب والدوافع التي أدت إليه لكنا بوارد التبصر فيما جرى، وبعد هذا التاريخ الأخير بـ85 يوماً كان الملك فيصل يحضر قمة الخرطوم التي أعلنت لاءاتها الثلاث الشهيرة: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات، وكان، أي الملك فيصل، أول المؤيدين لها!
ما بعد الخرطوم حدثت العديد من القمم التي يمكن قول الكثير فيها أيضاً، لكن ربما كانت المفارقة الكبرى أن دمشق كانت قد تقدمت في قمة سرت بليبيا التي انعقدت أواخر آذار 2010 بطلب أن يتضمن بيان القمة الختامي بندا يشير إلى عدم جواز التدخل في شكل أي من أنظمة الحكم القائمة في أي بلد عربي، واعتبار الاستعانة بالخارج لتسوية الخلافات السياسية الداخلية من المحرمات، ولم يكد يمضي عام على تلك القمة حتى أضحت الجامعة العربية مطية لحلف الناتو الذي اجتاح ليبيا وأسقط نظام الحكم القائم فيها.
لا نقول هذا الكلام لأن سورية لم تكن حاضرة في قمة تونس، ولا تعبيراً عن اللامبالاة لذلك الغياب الذي جاءت زيارة بومبيو الأخيرة للمنطقة لتكريسه واقعاً، فمؤكد أن مخاطر المرحلة كانت تفترض عودة القلب إلى الجسد، وكذلك عودة هذا الأخير إلى الأول، والوجود السوري داخلا هو فاعل أكثر من وجوده خارجاً.
بانتظار القمة المقبلة هناك الكثير من المعطيات الآخذة بالتبلور في إمكان تبلور محور عربي يمكن له أن يشكل سداً مانعاً أمام تتالي مسلسل الانهيارات الذي تقوده محاور الخليج التي لا تمتلك من وسائل القوة سوى أكياس المال وفضائيات «الكمبريصة» التي تتقن فن الهدم فحسب، فحقائق القوة لا تصنعها هذي الأخيرة وأن بدت كافية لتصدر المشهد في مرحلة من المراحل كانت معطيات الخارج تدفع بها نحو ذاك الاتجاه، وما يصنعها هو حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا ونبض الشعوب الحية التي لا تفنى بالحروب ولكنها تفنى فقط بالمساومة على وجودها.