ذرا التلاقي.. ووديان الفراق.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

ذرا التلاقي.. ووديان الفراق.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ فبراير ٢٠١٩

على الرغم من أن قرار الانسحاب الأميركي من سورية كان يفترض تلقائياً أنه سيدفع، أو هو لن يترك سوى خيار وحيد، بالدول العربية إذا ما أرادت حصر تداعياته المحتملة نحو مد الجسور القديمة، وفتح أخرى جديدة، مع موسكو والتنسيق معها فيما يخص تأثيراته في الأزمة السورية، التي بتنا نقصد بها الآن على أنها استعصاء قوى إقليمي ودولي يمر بحالة استقطاب قصوى لا يستطيع أي من طرفيها حسم نتيجة الصراع لمصلحته أو فرض إرادته على الآخر، إذ لا بد وأن الحسابات العربية باتت تدرك المخاطر المحتملة لتمدد تركي في الشمال السوري وما يمكن أن يؤدي إليه في حال نجاحه إلى إخلال في التوازنات الإقليمية القائمة، وكذا الأمر تتحسب لـ«ثارات» الإخوان المسلمين الذين أحسوا بطعن داعميهم لهم على الطريقة «البروتوسيه».
على الرغم من ذلك فإن ثمة شيئاً ما حصل في اللحظات الأخيرة، وهو الذي أدى إلى وقف الاندفاعة العربية نحو دمشق، ولم يستطع تجمع «الثماني» أن يشد بالباقين من العرب نحو اتخاذ قرار يعيد لدمشق وضعها ومحيطها الطبيعيين، والراجح هو أن الكوابح المفترضة لاندفاعة كهذه كانت قد شدت بأيدٍ بريطانية – أميركية ارتأى عقلها المدبر أن من المبكر أن تحصل دمشق على هكذا ثمن الآن، الأمر الذي يعني بالضرورة اعترافاً دولياً بصوابية الخيارات التي اتبعتها في مواجهة الأزمة التي عصفت – ولا تزال تعصف- بالبلاد والتي يجمع الكثيرون على أنها الأعقد والأكثر تشابكاً من نوعها منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في عام 1945، وفي شرح هذه النقطة الأخيرة يمكن العودة إلى ما قاله فيها حكيم عصر القوة الأميركي والمعبر عن وجدانها، فقد رد وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر على سؤال وجهته إليه صحيفة «ديلي سكيب» ونشرته في أيار 2018: لماذا سورية؟! بالقول لأن: «سورية اليوم هي مركز الإسلام المعتدل في العالم وهو ذات الإسلام الذي كان على وشك الانتصار في عام 1973 لولا السادات» ثم أضاف: «سورية أيضاً هي مركز المسيحية العالمية ولا بد من تدمير البنى العمرانية المسيحية وتهجير المسيحيين منها وهنا لب الصراع مع موسكو، فروسيا -و كذا أوروبا الشرقية- تدين بالأرثوذكسية وهي تابعة دينياً لسورية وهذا سر من أسرار الحرب السورية» انتهى كلام كيسنجر، ولعلنا نضيف عليه شيئاً آخر مهماً أيضاً هو أن هذه الكنيسة لم تعمد إلى تبرئة اليهود من دم السيد المسيح كما فعل الفاتيكان في عام 2012، وفي عودة إلى السياق السابق نضيف أن تلك الاستعادة، أي استعادة دمشق لموضعها ومحيطها، سوف يحيل القرارات الدولية بشأنها كلها إلى حصيلة هي الصفر، أو يحيلها إلى ملفات للأرشفة يمكن أن تهم الباحثين أو الدارسين والمؤرخين، وبالمحصلة أيضاً فإن تلك الاستعادة ستعني أن ثلاثي دمشق- موسكو- طهران قد استطاع أن يجير تدويل الأزمة الحاصل منذ عام 2012 لمصلحته بعد أن تمكن من فرض رؤاه ومصالحه وإستراتيجياته التي كانت أقرب إلى إستراتيجيات قطرة الماء وهي تهم نحو نحت الصخرة الصماء.
سيشهد يوم الخميس المقبل محطتين مهمتين في مسار الأزمة السورية أولاهما في سوتشي وثانيهما في وارسو، وفي الأولى سيجتمع الثلاثي الروسي الإيراني التركي الضامن لمسار آستانا، على حين ستجتمع في الثانية 76 دولة تحت عنوان عريض هو ضبط سلوك إيران في الشرق الأوسط، وما بين الحدثين الكثير من ذرا التلاقي والكثير من وديان الفراق ومرد ذلك كله هو الاستعصاء السوري.
في سوتشي ستكون هناك العديد من النقاط الخلافية، وفي مقدمها أن موسكو لا تزال مؤمنة بالفيدرالية سبيلاً إلى الحل وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في تصريحات المسؤولين الروس وعلى مختلف مستوياتهم وهم يتحدثون عن «الشعوب السورية»، وإن كان من الممكن رصد تحول ما في هذه الرؤيا، إذ من الواضح أن موسكو باتت اليوم أكثر اقتناعاً بأن الوجود الكردي على الأراضي السورية يفتقد إلى تموضعه في جغرافيا محددة تمتلك سمة التواصل وهو في مجمله يتناثر في جزر لا تمكن المركز من مد نسغه إلى باقي الواحات البعيدة، ناهيك عن أن النظرة الروسية تأثرت بانحسار موجة المد الكردي الإقليمية البادئة في كركوك 2017 والواصلة إلى عفرين 2018، والمؤكد هو أن الأكراد أنفسهم هم أول من قرؤوها جيداً مما يمكن تلمسه في اندفاعتهم الأخيرة تجاه دمشق وان كان تلك الاندفاعة لا تزال تكتيكية وهي تهدف إلى خلق حالة دفاعية – وقائية تحسباً لمواجهة أميركية إيرانية في المنطقة وتجنباً لمصير مهاباد 1946، لكن على الرغم من ذلك يمكن البناء على هذه الحالة الأخيرة وإمكان تحولها إلى خيار إستراتيجي في ظل ظروف يمكن أن تدفع -إذا ما توافرت الواقعية السياسية لدى الأكراد- نحو تبني سياسات تغيب فيها شعارات الماضي مما يمكن تلمسه في لقاء «عين عيسى» في 28 من تشرين الثاني الماضي الذي جمع بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني (PYD) وبين بعض القوى في المعارضة الرافضة لمسار جنيف، صحيح أن دوافع الأطراف كانت مختلفة بحكم أن الأكراد كانوا مبعدين عن ذلك المسار بفيتو تركي ولربما لولا ذلك لما كانت هناك تلاقيات من هذا النوع، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن ثمة مؤشرات مهمة بدت علائمها ترتسم مؤخراً في «ياقة» قميص المعارضة وليس في أكمامها فحسب وهي تصب في الدلو الأخير نفسه، ففي لقاء أجرته معه مجلة القدس العربي ونشرته في أيلول 2018 اعترف المعارض رياض الترك الذي مثل لسنوات الدينمو الفكري للائتلاف السوري المعارض بفشل رهاناته الأربعة دفعة واحدة (التدخل الخارجي- عسكرة الثورة – التحالف مع الإسلاميين- إسقاط النظام).
وفق هذه المعطيات فإن موسكو ستقف بقوة أمام النظرة التركية لحل المشكلة الكردية في الشمال السوري انطلاقاً من أن نفاذ تلك النظرة سيمنح النزعة العثمانية فرصه للتمدد في أوساط الجمهوريات الإسلامية المحيطة بروسيا مثل طاجيكستان وتركمنستان، الأمر الذي يشكل هاجساً حقيقياً لدى موسكو في ظل وجود مؤشرات بارزة لدى الغرب تصل بهذا الأخير إلى التفكير بتفكيك الاتحاد الروسي انطلاقاً من اللعب على المكون الإسلامي فيه، هذا القبول الروسي «الهلامي» بالفيدرالية ستقابله كل من أنقرة وطهران برفض متشدد على اعتبار أنه سيضع الأكراد في وضعية اتفاقية «سيفر» 1920 وليس في وضعية «لوزان» التي هي أقرب إلى تصوير الواقع القائم الآن.
وفي النصف الثاني من المشهد يفترض أن يفتتح المبعوث الدولي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون مؤتمر وارسو الخميس المقبل أيضاً في تأكيد على «رحمية» العلاقة بالأزمة السورية، ومن المقرر أن يعمد المؤتمر إلى تشكيل 6 لجان تتعلق بتهديد الأمن السيبراني -أمان الطرق البحرية- الصواريخ البالستية- محاربة الإرهاب- تدمير الأمن- وحقوق الإنسان وهي في مجملها تعني محاولة وضع طهران داخل الشبك.
ما بين سوتشي ووارسو تجاذبات شديدة التعقيد سترخي بظلالها على المشهد السوري ليس لجهة استمرار الحرب بل بالدور الذي ستضطلع به دمشق في المرحلة المقبلة.