من بيروت إلى وارسو.. صحوة موتٍ أميركية أم استعادةٌ لزمامِ المبادرة؟

من بيروت إلى وارسو.. صحوة موتٍ أميركية أم استعادةٌ لزمامِ المبادرة؟

تحليل وآراء

الأحد، ٢٠ يناير ٢٠١٩

يقولونَ إنّ الضربَ بالميتِ حرام، وعندما نتحدث عما يسمونهُ «العمل العربي المشترك» فإننا هنا لا نتحدث عن ميِّت، بل أموات في مدفنِ سيدهم الأميركي يبثُّ فيهم الروح ساعةَ يشاء.
هكذا فشِلت القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية بدورتها الرابعة في بيروت قبلَ أن تبدأ، ولنعترِف هنا أن ربطَ فشل القمة فقط بعدمِ التوافق على عودةِ سورية إلى الجامعة من عدمهِ هو نوعٌ من النرجسيةِ المفرِطة، ومن يدقّق في الكلمات الافتتاحية لاجتماع وزراء الخارجية التحضيري يعي تماماً أن القضية عنوانَها دمشق، أما المحتوى فهو ضياعٌ يُضافُ إلى عقودٍ من الضياع، تحديداً إذا ما كان أعداؤنا يهيمنون على النظام الرسمي العربي الذي يحقق لهم عنوانهم العريض:
ممنوعٌ على هذهِ الأمة أن تنهض، ممنوعٌ عليها أن تقرِّر.
نبدأ من كلامِ وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل الذي أكدَ عن غيرِ قصدٍ أن سبب عزوف الزعماء العرب عن الحضور هو قرار أميركي بحت، تماماً كما هو قرار استبعاد سورية ورفضَ عودتها، لكن مهلاً ماذا عن التسريبات التي نشرتها صحيفةٌ لبنانية تؤكد فيهِ أن وزارة الخارجية اللبنانية استشارت وزارة الخارجية الأميركية بما يتعلق بالموقف من دعوة سورية إلى القمة الاقتصادية والموقف الأميركي من مشاركة لبنان في إعادة الإعمار؟ ثم من قال إن سورية إن لم تكن في «حضنِ العرب» حسب تعبيرهِ فهي ستسقط في «حضن الإرهاب»؟ لماذا لم يسقط لبنان في «حضن الإسرائيلي»؟ مع العلم أن لبنان وصلَ إلى مرحلةٍ وجدَ فيها نفسه أمام رئيس للجمهورية وقعَ اتفاق الخنوع والإذلال مع العدو الصهيوني، واليوم يجد في بنيته أحزاباً يتغنَّون بنظرية «ليس لدينا مشكلة مع إسرائيل»، وبمعنى آخر:
لا يمكن لوطنٍ أن يسقط في حضنِ العدو أياً كان هذا العدو، ما دام فيهِ مقاوم، بل إنه من الواضح أن السقوط بحضن الإرهاب حالياً يحدث عندما يتمتع رعاة الإرهاب في هذا البلد أو ذاك بنفوذٍ ما.
أما أمينَ جامعتهِ العربية أحمد أبو الغيط، صاحبَ نظريةِ «تكسير أقدام الفلسطينيين إن تجاوزوا معبر رفح» عندما كان وزيراً لخارجية «الشقيقة الكبرى»، فإنه حاولَ أن يستنهضَ هِممنا فذكَّرنا بأن هذه القمة «تنعقد في توقيتٍ بالغِ الأهمية»، لكن مهلاً منذ متى والقمم العربية تنعقِد أساساً بتوقيتٍ عادي لدراسةِ مقترحاتِ البحبوحة الاقتصادية والرخاء الذي يلف الشعوب العربية؟
نكاد نجزُم بأن هذهِ العبارة تتكرر مع انعقادِ كلّ القمم العربية من دونِ استثناء، وتأكيد أهميةِ التوقيت الذي تنعقد فيهِ ليس نابعاً من أهميةِ الوقت عندنا كعربٍ أو أهميته في استشرافِ أخطار المستقبل، لكنهُ ببساطةٍ نتيجةٌ منطقية لحجم الكوارث والمصائب والخراب والدمار الذي يعيشهُ الإنسان العربي بمختلف التواقيت، عندها يصبح كل اجتماعٍ ذا أهميةٍ لأنهُ حُكماً مرتبطٌ بكارثةٍ ما، وهل من كارثةٍ أكبر من أن يخاف أحمد أبو الغيط من قيام السوريين بتسريب محاضرَ اجتماعات القمم العربية للإيرانيين إذا ما عادوا إلى الجامعة العربية، فيما صورة أبو الغيط وهو يمسِك بيد وزيرة خارجية العدو الإسرائيلي السابقة، تسيبي ليفني كمن يدعوها لـ«رقصة فالس» على جثث الفلسطينيين لا تزال عالقة في أذهاننا؟!
نحن هنا لسنا أمامَ كلامٍ عابر، علينا أن نقرأه ونرحل، هذا الكلام يعني اعترافاً رسمياً من رأس الجامعة العربية أن الكيان الصهيوني ليس عدواً، وأن العدو إيران.
في السياق ذاته، هل من مصيبةٍ أكبرَ من أن يحدّثنا وزير الخارجية العراقي محمد علي حكيم مشكوراً عن «الإستراتيجية العربية للطاقة المُستدامة 2014 إلى 2030» كإحدى الركائزِ المُهمة للتنميةِ المستدامة والارتقاء بمستوى المواطن العربي اقتصادياً واجتماعياً؟ هل حقاً أن النظام الرسمي العربي اليوم قادر على وضع خططٍ للتنمية المستدامة؟ كيفَ سيخطط النظام الرسمي العربي لذلك على حين الحاكم العربي اليوم لا يستطيع أن يخطِّط ليومهِ حتى بقضية من سيستقبل أو من يزور! كيف سيخطط لعقودٍ قادمة وهو يتاجر حتى بالنازحين السوريين في لبنان وغيرها ويمنع عودتهم لاستخدامهم مستقبلاً بضمان آليةِ تصويتهم في أي انتخاباتٍ سوريّةٍ قادمة بعد إنجاز ما يسمونه «الحل السياسي»؟
ربما أنّ من محاسنِ الحرب على سورية، إن كان للحربِ من محاسن، أنها أخرجتها من الجامعةِ العربية، فما يجري اليوم لا نستطيع فقط أن نُعيدَ بوصفهِ العبارة المُملة «عرّى النظام الرسمي العربي»، لكنه ببساطةٍ انتقل بنا إلى ما هوَ أسوأ أي «الموت السريري للنظام الرسمي العربي»، هذا الموت لا ينفع معهُ أبداً العلاج لأنه موتٌ أُريد له أن يكون على طريقة قتل الدماغ والإبقاء على الجسد، لما لا إذا كانَ أصحاب غرفةِ الإنعاش سيجنونَ الأموال الطائلة وهم ينقلون هذا الجسد من سريرٍ إلى سرير حسب الحاجة، فمن سريرِ الحرب على سورية، إلى سريرِ منع المشاركةِ في إعادةِ إعمارها وصولاً إلى تعويمِ مصطلح الصراع العربي الإيراني بدلاً من الصراع العربي الإسرائيلي، والذي قد يتجسّد رسمياً بدعوةِ الأميركي أيتامهُ للاستعراض من جديدٍ في قمة للسلام في الشرقِ الأوسط وعنوانها العريض: مواجهة الخطر الإيراني، فكيف ذلك؟
لم يكَد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، يُنهي كلامهُ عن عزم بلاده على عقدَ قمةٍ دولية حول مسائلِ المساعدة في إحلال الاستقرار في الشرق الأوسط ومواجهة التهديدات الإيرانية منتصف شباط القادم في العاصمة البولندية وارسو، حتى سارعت الدول والمشيخات التي لم ترفع مستوى تمثيلها في القمةِ الاقتصادية المنعقدة في بيروت لتأكيدِ حضورها، بل إن الإعلام المرتبط بهذه الدول بات يتغنى بهذهِ القمة منذ الآن لقدرتِها على تشكيلِ موقفٍ موحدٍ تجاهَ إيران.
ربما يبدو الأميركي يوماً بعدَ يوم بحاجةٍ ماسّة إلى الاستعراض لأجلِ الاستعراض، لذا جاءت دعوتهُ إلى هذه القمة ووصمها بلقب «قمة وارسو» ليزداد الاستعراض استعراضاً، هم يعلمونَ تماماً أن هذهِ القمة لن تخرجَ عن سياقِ القِمم العربية في القرارات والتوصيات، لكن لعلها المرة الأولى التي سيستطيع فيها الأميركي رسمياً أن يجمعَ «أعداءَ إيران» في مؤتمرٍ واحدٍ، تماماً كما كان يجمع «أعداء سورية» بمسمى «أصدقاء الشعب السوري»، لكن الاختلاف بين الفكرتين هنا هو الحضور الإسرائيلي الذي قد يشكل فرصةً لمصافحاتٍ أو مصالحاتٍ ما زال هناكَ من «يخجل» إعلانها صراحةً.
استعراضٌ مارسهُ الأميركي بغزارةٍ خلالَ الأسابيعَ الماضية وكان له هدفٌ مزدوج، الأول هو التعمية على فشلهِ في سورية والثاني رفعَ تسعيرةِ الابتزاز الذي يمارسهُ مع حلفائه، ولتتضح الصورة أكثر، لنتذكر مثلاً أنه بالكاد أعلنَ سحبَ قواتِه من سورية وأوحى لبعضِ المشيخات إمكانيةَ إعادة فتح خطوط التواصل مع دمشق، حتى عاد للمربع الأول عندما وقَّع مع مشيخةِ قطر اتفاقية هدفها توسيعَ القاعدة الأميركية في «العديد» لتكون قاعدة دائمة لاستضافة قوات مشاة البحرية الأميركية.
هذا الشيك النفطي المفتوح عادَ وجعل القطري يستلم زمامَ المبادرةِ من أشقائِه «طويلي العمر» لدرجةِ أنه خرجَ عبرَ وزير خارجيته ليعلنَ «عدم إمكانية عودة سورية إلى الجامعة العربية»، ومكَّنَ الأميركي من الاستمرار بسياسةِ بيع الوهم للحلفاء عبر الحديث عن إمكانية إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، وهو الحلم التركي الذي لا ينفك رئيس نظامه رجب طيب أردوغان يصارع طواحين الهواء لأجلهِ، هكذا يكون الأميركي عملياً أفشَل الانفتاح على سورية، وأفشلَ القمم العربية قبل أن تنعقد والأهم أنه بطرحِ استبدال القوات الأميركية المنسحبة من سورية بمرتزقةِ «بلاك ووتر» لتشكِّل وجوداً رمزياً أميركياً يحمي إمكانيةَ التحكم بقرار الميليشيات المسلحة ويُفشل انفتاحها على الحوار مع دمشق، ليتركَ للاجتماع المقبل بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان إمكانية «العراك الدبلوماسي» حول الالتزام بتفاهمات سوتشي وأستانا تحديداً أن السلوك التركي حتى اليوم يؤكد ومن دونِ مواربةٍ أنه انقلب على هذه الاتفاقيات.
في الخلاصة: إنّ كل ما تمَ سرده سابقاً ليسَ «تحليلاً» للأحداث بقدرِ ما هو توصيف لها، الفكرة من هذا التوصيف هي: هل حقاً أن هناك من لا يزال يفكر باجتماعاتِ الجامعة العربية أو حتى العمل العربي المشترك؟!
لا نعرف من الذي ورَّط لبنان بهذه القمة، وبمعنى آخر: هل يتحمَّل لبنان الذي نحب وهو المنقسم أساساً على انقساماتهِ، أن يتم وضعهُ هكذا في وجهِ مدفعِ التجاذبات الدولية، لكن ما نعرفهُ تماماً أن هناك عناوين رئيسية مثل «القمم العربية»، «الأمن القومي العربي»، «التخطيط لمستقبل العرب الاقتصادي» جميعها أفكار تندرج تحت عنوانٍ واحد:
الضرب بالميت حرام، كيف لا والأموات يتم استحضارهم فقط.. ليتآمر بعضهم على بعض؟