أميركا تنزل أيتامها عن الشجرة السورية: هل تنجح استراتيجية «الانتصار على الهزيمة»؟

أميركا تنزل أيتامها عن الشجرة السورية: هل تنجح استراتيجية «الانتصار على الهزيمة»؟

تحليل وآراء

الأحد، ١٣ يناير ٢٠١٩

يوم الجمعة الماضي، أعلن وزير الدفاع الأوكراني «ديمير كراستيسفيتش» أن «إسرائيل» ألغت صفقةً لبيع أوكرانيا 12 مقاتلة حربية من طراز «إف 16» بسبب إصرار الولايات المتحدة باعتبارها الدولة المصنّعة والتي لا تتم الصفقة من دون موافقتها، على أن يتم تسليم المقاتلات التي خرجت من الخدمة في جيش الاحتلال من دون خضوعها لأي عملية تحديث في أنظمتها الالكترونية، وهو ما رفضته أوكرانيا.
منذ الإعلان عن هذه الصفقة قبل أشهر، بدا واضحاً أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو أراد من خلالها إزعاج الروس وإظهار قدرته على اللعب تحت الحزام وفي العمق الأوكراني، نظراً لتجاهل الروس له، والخلافات المعلنة وغير المعلنة معهم في العديد من الملفات المصيرية أهمها الملف السوري، يومها كانت هذه الصفقة إحدى وسائل الردّ غير المباشر عليهم، واليوم وفي ضوء إلغائها فإننا أمام أحد احتمالين:
الأول، أن الصفقة أساساً كانت خلبية، أو كنوع من الاستعراض الإعلامي لاستفزاز الروس بالقدر الذي يدفعهم لفتح قنوات اتصال مع بنيامين نتنياهو، تحديداً أن طائرات كهذه لن تقدّم ولن تؤخر في تحويل أيّ مغامرة أوكرانية تجاه روسيا إلى انتحار على أسوار موسكو. لكن من قال أساساً إن «البلاهة السياسية» هي حكرٌ على القادمين من خارج التاريخ، أليس من أقنعهم بالقدرة على وراثة مفاتيح دمشق هو ذاته من أقنع يوماً حكام جورجيا بقدرتهم على هزيمة روسيا وورطوها بحرب خسرتها قبل أن تبدأ؟ فما المشكلة بإقناع الأوكرانيين بأن هذه الطائرات ستحلّق يوماً فوق الكرملين عندما يتم إسقاط «النظام الروسي»! تحديداً إن الولايات المتحدة لم ترفض تسليمها، لكن ما رفضته هو خضوعها للتحديث.
أما الاحتمال الثاني فهو مرتبط عملياً بقدرة العقل الأميركي على ركوب موجة «العقلانية» في اللحظة المناسبة.
ربما يعي الأميركي أن حماقات نتنياهو المحاصر بكل أشكال الوهن وتهم الفساد والفضائح يجب أن تضبط على توقيت واشنطن وليس على توقيت «حدود إسرائيل من الفرات إلى النيل»، وأن خطوات استفزازية كهذه لا تقدّم ولا تؤخّر في مسار الضغط الإسرائيلي على روسيا، بل إنها ستفضي لردود فعل روسية قاسية، إلا إن كان هناك من يعتقد أن قرار تسليم الجيش العربي السوري بطاريات صواريخ أس 300 اتّخذ فقط بعد أن تسبب العدوان الإسرائيلي على مدينة اللاذقية بتحطّم طائرة نقل عسكرية روسية.
هي الواقعية السياسية التي يتقنها الأميركي ويتقن معها التحول بحلفائه من «الانتصار على الهزيمة» باتجاه التحضير لانتصار وهمي آخر فما الجديد؟
كعادة المسؤولين الأميركيين، لم ينه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو جولته الشرق الأوسطية دون أن يترك خلفه ما يثير الجدل، ففي الكلمة التي ألقاها في الجامعة الأميركية في القاهرة، بدا واضحاً أن الضياع الدبلوماسي الأميركي وصل مداه، ضياعٌ مردّه الأساسي هي قدرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التفكير بصوت عال، وهو الأمر الذي كان محظوراً على أسلافه من الرؤساء، والعبء الكبير الذي خلفته إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما حوّلت هذا الشرق البائس إلى كتلة مشتعلة.
بومبيو سار على خطا أوباما بتحويل عاصمة الدولة العربية الكبرى إلى صندوق رسائل، وإذا كان خطاب أوباما عملياً هو شرارة الانطلاق لبدعة الربيع العربي الذي مزق هذا الشرق البائس، فما المنتظر من بعد كلمة بومبيو الذي لم ينجح عملياً بأن يقدم لحلفائه أكثر من الوعود والكلام المعسول الذي يبرّر هزيمتهم وتراجعهم في سورية، لكنه ظلّ متمسكاً بحتمية النفوذ في الأميركي في المنطقة؟
في الإطار العام لم تخرج عبارات بومبيو عن التكرار الممل الذي اعتادته الإدارات الأميركية المتعاقبة لتوصيف دور الولايات المتحدة أو شدّ عصب الحلفاء، أي إن هذه الكلمة جرى إعطاؤها أكثر مما تستحق تحديداً بما يتعلق في التهويل للحرب ضد إيران، فلا الأميركي الذي يهدّدها ليل نهار قادر أن يبدأ حرباً ضدها، تحديداً أن «ترامب البخيل» لا يمكن له أن يغامر بفلس واحد غير محسوب حتى لو كان هناك من هو جاهزٌ لدفع الفاتورة، ولا دول الناتو العربي التي يسعى لتحشيدها قادرة على تحمّل تبعات مهمة كهذه، فهل نبدأ من مصر مثلاً التي يريدها الأميركي أن تتورط بحرب ضد إيران بينما رئيسها عبد الفتاح السيسي يعترف علناً بأن جيشه لا يستطيع محاربة شراذم الإرهاب في سيناء، فيضطر للاستعانة بـ«الصديق الإسرائيلي»، أم نمر على جيوش الكبسة في مشيخات النفط وصولاً للجيش الذي يضيع مرتزقته رشاشاتهم في الجنوب اللبناني المحتل! وبمعنى آخر: لماذا التهويل بقدرة الأميركي على شنّ الحرب علماً أن بومبيو ذات نفسه كان قد قال من القاهرة بأن واشنطن ستعمل عبر «الدبلوماسية» من أجل ضمان طرد آخر جندي إيراني من سورية، تصريحٌ يبدو أهم من كل الكلمة التي ألقاها بومبيو، لأن كل ما كان يبحث عنه بومبيو في كلمته هو تصوير فرضية أن «علانية» العلاقة بين «الناتو العربي» و«إسرائيل» بحدّ ذاتها انتصار، أو لنقل إنه الضغط الإعلامي أو خيبة أمل حلفائه المترافقة كثيراً مع الانسحاب الأميركي من سورية، يحاول الأميركي من خلالها انتزاع انتصار لمن سماهم «شركاؤنا العرب»، لكن ماذا عن الشريك التركي؟
خلال الاجتماع الذي عقد قبل أمس في لواء اسكندرون المحتل وضم كلاً من وزير الحرب التركي خلوصي أكار، ورئيس الأركان يشار غولر، وقائد القوات البرية أوميت دوندار ورئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان، أكد أكار أن بلاده «قدمت جهودًا كبيرة للحفاظ على وقف إطلاق النار وحالة الاستقرار في إدلب».
في الواقع تبدو الاستماتة التركية للحفاظ على وقف إطلاق النار بحاجة للكثير من التصريحات بهدف إقناع الروس بأهمية اتفاق سوتشي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، لكن في المقابل عن أيّ استقرار يتحدث أكار في محافظة إدلب، إذا كانت الضّباع المتأسلمة تنهش بعضها البعض هناك منذ ما يقارب العشرة أيام في معارك ضارية، لم تفض فقط لسيطرة جبهة النصرة بمسيماتها المختلفة على كامل المنطقة، لكن تعداها لقيام فرع بلاد الشام في تنظيم القاعدة بفرض شروط على باقي الحركات الإرهابية هناك ليصبح صاحب الكلمة العليا وتحت الرعاية التركية.
ما جرى من قيام الجبهة ببسط نفوذها على مناطق شاسعة في الريفين الحلبي والإدلبي كان نتيجةً منطقية لسير المعارك في الأسابيع الماضية، فلا الجماعات الإرهابية استطاعت أن تصمد بوجه التنظيم الإرهابي، ولا التركي حاول أن ينقذ أيتامه من المحرقة، ربما يبدو هذا الأمر معطوفاً على هذا الاجتماع الأمني التركي الذي عقد على الحدود السورية وكأن النظام التركي يريد اللعب على أحد احتمالين، إما أن يدخل التركي بنفسه إلى إدلب بذريعة القضاء على خطر «النصرة» أو أن يقايض الأميركي والروسي على معركة ما شرق الفرات، فماذا ينتظرنا؟
يبدو أن الأميركي لن يكفّ عن سياسة بيع الوهم لحلفائه، على هذا الأساس هناك من استعجل بحمل لواء «أن تكون أميركياً أكثر من الأميركيين»، فهل نظن مثلاً أن كلام وزير الخارجية المصري سامح شكري عما سماها «شروط» عودة سورية إلى الجامعة العربية هي شروط عربية؟ لماذا نظلم النظام المصري! لعل ما نستشفه من كلام شكري أن عودة سورية مرتبطة فقط بقطع العلاقة مع إيران وحزب الله لا أكثر، عندها ستعود سورية إلى «جامعتهم» بدقائق، لكن كل هذه الجعجعة لا تبدو طحناً، هم يعلمون أن السوري لا وقت لديه لهم حتى ليردّ على تصريحاتهم فكيف عندما يتعلق الأمر بتنفيذ «شروطهم»!
لكن في المقابل هناك من بين رافعي لواء «أن تكون أميركياً أكثر من الأميركيين» من يلتقطون الإشارات بطريقة سريعة، وهل من إشارة أقوى من تصريحات نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بأن دمشق «فعلّت اتصالاتها مع الأكراد بعد التدخل التركي»، وتأكيداته أنه «لا بديل من الحوار مع الفصائل الكردية».
يبدو أن التركي أصغى بعناية لهذا الكلام، لذلك تراه اليوم كالأفعى التي تتلوى باحثةً عن الأذى، هو يعلم تماماً أن معركة إدلب قادمة، وانتهاء الميليشيا الكردية في حضن الوطن مسألة وقت، ما يعني ذهاب طموحاته العثمانية أدراج الرياح، وبمعنى آخر:
لا حرب على إيران، كل ما في القضية أن أميركا تحاول إنزال أيتامها الواحد تلو الآخر عن الشجرة، جميعهم فيما يبدو قد استجابوا ولم يبق لديهم إلا التركي، هو الوحيد الذي لا يزال مصراً على الوقوع عن الشجرة وليس النزول عنها.