القبض على «العولمة».. بقلم: سيلفا رزوق

القبض على «العولمة».. بقلم: سيلفا رزوق

تحليل وآراء

الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠١٨

لم يكن ينقص العالم إلا أن يشاهد عدوى «السترات الصفراء» تتنقل داخل دول الاتحاد الأوربي، ليدرك أن فكرة السوق المفتوحة والعالم الواحد بدأت تصل نهاياتها التي تطالعنا بنتائج كارثية حتى الآن.
ما يجري في أوروبا اليوم جاء نتيجة تراكم معطيات شكلت أرضية خصبة مهدت بدايةً لإعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، مروراً بصعود الشعبوية السياسية، وصولاً إلى الانفجار الذي تشهده فرنسا الذي تبدو معه حكومة باريس عاجزة عن تخفيف حدته.
نظام السوق الواحد الذي كانت أميركا أحد أكبر مهندسيه وداعميه، وبعدما قدم خدمات جليلة للرأسمالية الغربية وكانت تعتقد أنه سيسير بها نحو إحكام أكبر لقبضتها على العالم، بدأ يلقي بظلاله السيئة على الدول التي روجت له ودعمته، ولعل أحد أخطر ارتدادات نظام «العالم الواحد» أو «العولمة» كما هي التسمية المعروفة، كان الصعود الصيني الاقتصادي الكبير الذي عرف كيف يستثمر جيدا في المفرزات التقنية والتكنولوجية والاجتماعية التي قدمها النظام العالمي الجديد، لبناء قوة اقتصادية وتكنولوجية بدأت تشكل تحدياً خطيراً، وانزياحاً لرأس المال العالمي، لأول مرة منذ مئات السنين من الغرب نحو الشرق.
الصين لم تكن الوحيدة التي استفادت مما يجري حولها، سارت معها روسيا وعدد لا يستهان به من دول آسيا وأميركا الجنوبية، لتجد أذرع الغرب وأميركا نفسها أمام خسارات متتالية، دفعت بها إلى اللجوء لسياسة دعم الحروب المحلية ونشر الفوضى، كبديل من الاستعمار الذي لم يعد صالحا للتطبيق في عصر عولمة التسليح أيضاً.
سياسة «الفوضى الخلاقة» التي ابتدعتها أميركا، كانت ارتداداتها عكسية أيضاً، مع صمود عدد من الدول في وجه تغيير خرائطها، وازدياد مخاوف عولمة الإرهاب الذي لم يعد أحد قادراً على ضبطه ضمن الحدود التي رسمت له، وارتفاع حدة الهجرة من الجنوب صوب الشمال، ما شكل أعباء كبرى، أوصلت الشعوب الغربية نحو الانزياح صوب مصطلحات الشعبوية والاشتراكية، ودفعت المؤسسات الأميركية العميقة لدعم وصول الرئيس دونالد ترامب بشعاره المعروف «أميركا أولاً»، وتسلم زمام مبادرة إنهاء حقبة «العولمة»، من دون طرح مشاريع بديلة أو ظهور طبقة سياسية قادرة على حماية العالم، ريثما يجري التفكير في ترتيب «عصر ما بعد العولمة».
فرنسا ربما تشكل اليوم التظهير الأكثر وضوحاً للأزمة الغربية الكبرى، وحالة الاستعصاء الاقتصادي التي بدأت تلف شريحة واسعة من المجتمع الأوربي والغربي عموماً، ومع استمرار الشعور العدائي المتنامي تجاه طبقة النخبة التي تفرز الطبقات السياسية الحاكمة اليوم، والتي بدورها تسير في ركب دعم انعدام العدالة الاقتصادية، حيث البنوك لا تزال ترفع من معدلات الإقراض، والاستثمارات تنصب في قطاعات غير منتجة، لا يستثمر فيها إلا الأغنياء، عوضاً عن التفكير في كيفية ضخ الأموال لخلق وظائف جديدة في اقتصاد حقيقي يخفف حدة الضغوطات الاقتصادية عن كاهل الطبقة الأوسع وهي الطبقة العاملة، فإن حالة الغضب الاجتماعي الحاصلة يبدو أنها تنحو صوب اتجاهات مفتوحة غير واضحة النهايات.
أما عن أميركا فهي حتى الآن تسير في طريق تنفيذ البنود التي وضعتها النخب لبرنامج ترامب الانتخابي، وسقوط الاتحاد الأوروبي بمفهومة الحالي لن يزعج واشنطن أبداً، وخصوصاً إذا ما تذكرنا حرب فرض الضرائب الأخيرة التي جرت بين حلفاء الحرب السابقين، وتغريدات ترامب المعادية لتشكيل جيش أوروبي يسهم في إبعاد أوروبا عن خدمة مصالح أميركا، خير دليل على سعادة الطبقة الحاكمة في واشنطن بما يجري اليوم على الضفة الأخرى من الأطلسي.
أما عن منطقتنا فمشروع الفوضى الأميركي، لا يزال مدعوما بأياد إقليمية واضحة رغم الضربات الموجعة التي تلقاها في سورية ومناطق أخرى، فالحاجة للفوضى على تخوم إيران وروسيا والصين هي حاجة ملحة أميركيا، بانتظار حصد نتائج يبدو حتى الآن أن الأطراف المستهدفة والمعنية بما تخطط له واشنطن، قادرة على لجم ما يخطط لها والسير بالاتجاه الذي يحمي حدودها ومصالحها ومعها مصالح حلفائها.
بالتأكيد هي سنوات قليلة حاسمة بعمر النظام الدولي الذي يتشكل، نظام سيشكله المنتصرون كما هي طبيعة الأشياء، لكن السؤال الأكثر إلحاحاً لنا نحن شعوب المنطقة، أي الأدوات سيجري استخدامها لينهي أصحاب الشأن معركة «اليوم العالمي التالي»؟