إسقاط الدولة بالدستور.. تسليمٌ أميركي بالهزيمة أم إعدادٌ لتكتيكٍ جديد؟

إسقاط الدولة بالدستور.. تسليمٌ أميركي بالهزيمة أم إعدادٌ لتكتيكٍ جديد؟

تحليل وآراء

الأحد، ٣٠ سبتمبر ٢٠١٨

 فرنسا ـ فراس عزيز ديب
كما كل عام، لا يغادُرنا شهرُ أيلول قبلَ أن يتحولَ منبر الأمم المتحدة إلى سوقٍ للتكاذب الإنساني والأخلاقي، ليصبحَ هذا المنبر عبر كثرٍ من الممثلين أشبهَ بمسرحٍ كبيرٍ تعدَّدت عروضهُ.
هناك مثلاً مسرح الدُّمى، حيث يمكننا مشاهدةَ عروضهِ مع كلِّ كلمةٍ يلقيها ممثل لإحدى مشيخاتِ النفط، حتى يأتيك الشعور بأنهم يتراقصون مع كلماتهم بحبالٍ مشدودةٍ إلى الأصابع التي تحركهم، أما البعض الآخر فيُشعرك وكأنه أتقنَ فن «المونولوج»، ليخرجَ على الحاضرين بكلماتٍ وعباراتٍ لا يشبهها إلا النكت التي يتداولها المونولوجست في المرابع الليلية، نكتٌ لا تستفز الثمِل ليبتسم، ولا تسيطر على الواعي ليسكرَ، وكما جرت العادة فإن هكذا حفلات يجب أن تنتهي بنجم الحفل الذي يرتكز عليه إيراد شباك التذاكر، وبواقعيةٍ تامةٍ فإن نجم الحفل لهذا العام كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعد أن سرقَ الأضواء من نجم العام الماضي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صاحبَ نظرية «أمن المواطن الإسرائيلي من أمن المواطن المصري».
ترامب ذكّرنا أنه لم يكن يسمَع بمدينةِ إدلب السورية قبل أشهر، ونحن الذين توقعنا أن اهتمامهُ الكبير بمنعِ الهجوم عليها لحماية الإرهابيين الذين فيها، لكنه ببساطة كان وفياً لتلك الرحلة التي قادَ فيها سيارته عند الساعة الخامسة صباحاً على أنغام فيروز وهو يعبر من جسر الشغور باتجاه اللاذقية.
اعتقدنا لجهلِنا وسوءِ ظننا أنه يريد الاستثمار بأقذر خزانٍ متطرفٍ عرفه التاريخ، لكنه ببساطة كان يحنُّ للدفاع عنها وكأنه قد جالَ يوماً في متحف معرة النعمان ليقبل رأس أبي العلاء المعري، قبل أن يقطع «أطفال إدلب الباحثين عن الحرية» رأس تمثالهُ لأنه ضلالٌ والعياذ بالله لا يشبههُ إلا الضلال الذي يقع فيهِ من يسمي ابنتهُ «ريتا»!
ترامب لم يكتفِ بإضحاكِ كارهيهِ قبل محبيهِ، لكنهُ بذاتِ الوقت أصرَّ أن ضحكهم هذا كان من فيضِ الإعجاب، ليصل الأمر ببعض الصحف والمحللين الأميركيين للحديث عن «العار» المرتبط بوجود ترامب كممثلٍ للولايات المتحدة الأميركية.
الإعلام الأميركي الذي هو بالنهايةِ أسوأَ من الإدارة التي تحكمهُ ينظر إلى العار فقط من منظور البلاهة الترامبية، لكنهم نسوا العار الذي لحقهم عبرَ ملايين الضحايا من فيتنام إلى العراق وأفغانستان وليبيا وسورية واليمن، باتت كلمات ترامب غير المترابطة وجملهِ المفككة وأكاذيبهُ هي العار، وكأن تلك الصحافة التي تتحدث عن العار الذي لحقَ بالأميركيين من دفاع ترامب عن مجازرِ آل سعود وآل نهيان في اليمن، لا تتقاضى أموالاً من تلك المشيخات مقابل مقالاتٍ مسبقةِ الدفع هدفها تلميع صورةَ هذه المشيخة أو تلك، هم يتناسون أساساً أن العار لا يتجزأ، فمن يقوم بهِ، لا يفرق عن الساكت عنه.
لكن التلهي بسوقِ عكاظ الأممي لم يمنع تلك الجوقة التهريجية من افتتاحِ عروضٍ ثانيةٍ بعيداً عن الحشدِ الإعلامي، منها مثلاً اجتماع ما يسمى «المجموعة المصغّرة» حول سورية، التي ضمت كلاً من ألمانيا والسعودية ومصر والولايات المتحدة وفرنسا والأردن وبريطانيا. اجتماعٌ بدا وكأنّ خير توصيفٍ له ما جاء بالمثل الشعبي «لقاء متعوس الحظ بخايب الرجا».
اللافت أن المجتمعينَ وبيانهم الذي طالب المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا بالإسراع بتشكيل لجنة دستورية لصياغة دستور سوري جديد، جعلنا نتوهُ في تحديدِ هويةِ «المتعوس» من «خايب الرجا»، فكيف لنا مثلاً أن نوِّصف مشاركة المتسوِّل الأردني في الاجتماع؟ ماذا عن السعودي الذي لا يعرف كلمةَ صندوقٍ إلا لملئ الخضار والفواكه فجاء ليطالبَ بانتخاباتٍ نزيهة، كل هؤلاء بما فيهم البريطاني والألماني يظهرون وكأنهم مجرد أراكوزاتٍ يحضرون ليبصموا على ما يريدهُ الأميركي فقط، لكن وبعيداً عن السرد الكوميدي لتلك الأراكوزات المهرجة لابد من طرح سؤالٍ واقعي: ما الذي هدفَ إليه الأميركي حقيقةً من هذا التشويش؟
لقد كان لافتاً أن هذا البيان جاء بعد حدثينِ مهمين:
أولاً: بدء تطبيق اتفاق إدلب الذي بدا وكأنهُ انتصارٌ سياسي للقيادة السورية لم يساهم فقط بنزعِ فتيل المعركة، لكنهُ وضع التركي أمام التزاماتٍ يبدو حتى الآن لا يستطيع تنفيذها، فلا «جبهة النصرة» تراجعت، ولا التنظيمات الإرهابية المرتبطة بها سلمت سلاحها كما ينص الاتفاق، بل إنهم لا زالوا يمنعون المدنيين من الخروج عبر الممرات الآمنة، هذا الاتفاق تبدو نهايتهُ كما يستقرؤها الأميركي ستصب في مصلحة القيادة السورية، فإما أن ينجح التركي بتطبيقِ التزاماته وبالتالي عودة تدريجية للدولة السورية إلى المناطق المحررة، أو يفشل الاتفاق عندها ستكون القيادة السورية ملزمة باستعادة المنطقة حرباً بعد أن أعطت فرصاً كثيرة لحقن الدماء، وفي كلا الحالتين يدرك الأميركي قبل غيرهِ أن مراحلَ عسكرة إسقاط النظام تلفظ أنفاسها الأخيرة، فباتوا يعدون العدة للمعركة الدبلوماسية القادمة، أو ما بات يُعرف بمعركة الحل السياسي، التي يبدو من أساسياتها تكوين معارضة قادرة أن تكسب المصداقية لتمثيل الطرف المفاوض لما يسمونه النظام الذي ينتهي كما يتمنوه بـ«إسقاط الحكومة عبر الدستور والانتخابات».
ثانياً: الإعلان رسمياً عن بدءِ روسيا توريدَ منظومات «إس 300» إلى سورية، وبالتأكيد لا يبدو أن هذا الحدث عابراً في مسار السياسة الدولية التي تتصارع في سورية، كما أن القضية أبعد من فرضيةِ قيام حليفٍ بتسليح حليفه، القضية فيما يبدو مرتبطة أساساً بالتفكير الروسي بالانتقام لكنه ببساطة انتقام هادئ، هذا التخوف من الانتقام الروسي وما سيعنيه امتلاك السوريين لهذه المضادات بدأ يدخل ضمن حسابات ما هو قادم بالنسبةِ للأميركي، تحديداً بما يتعلق بوجودهِ في سورية الذي من الواضح أنه بات يشكلُ عبئاً عليهِ، واستبدالهِ بتفعيل الوجود عن طريق ما يسمونهم «الدبلوماسيين»، كما في مناطق شمال شرق نهر الفرات.
لكن السعي الأميركي لا ينطلق فقط من النجاحات العسكرية للسوريين وحلفائهم، لكنه كذلك الأمر يتعداهُ نحو ما هو سياسي عبر التصويب على منجزاتِ مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري، تحديداً أن مطالب المجموعة المصغرة مشابهة لما كان قد رفضهُ السوريون سابقاً مطلعَ هذا العام، وسميت يومها بـ«ورقة عمل دي مستورا»، التي قال عنها يومها السفير بشار الجعفري: إنها «لا تستحق الحبر الذي كتبت به لأن شعبنا لم ولن يقبل بأن تأتيه الحلول بالمظلات أو على ظهر الدبابات»، لكن الأخطر اليوم هذه الرغبة الأميركية بتسريع فكرة الوصول لهذا الحل لضمانِ إجراء الانتخابات قبل عودةِ اللاجئين لضمانِ التلاعبِ بالنتائج، فماذا ينتظرنا؟
من الواضح أن هكذا اجتماعاتٍ لم تعد كافيةً حتى لجلبِ التحشيد الإعلامي، بالرغمِ من التركيز الأميركي المنصب على المعركتين السياسية والاقتصادية بعد تسليمه غير المباشر بخسارةِ المعركةِ العسكرية عبر المرتزقة والإرهابيين، قد نستطيع أن نستشف ذلك من بين سطورِ التصريحات التي أدلى بها المبعوث الأميركي لشؤون سورية جيمس جيفري عقب هذا الاجتماع، فهو من جهةٍ اعتبر أن الولايات المتحدة لا تسعى لإخراج إيران بالقوة من سورية لأن خروجها مع الأميركي سيكون نتيجةً منطقيةً لبدء الحل السياسي، كذلك الأمر هو يرى أن الرئيس بشار «الأسد لم ينتصر لأنه لا يسيطر على منابع النفط والغاز».
هذه التصريحات لا تبدو فقط كبديلٍ من الاسطوانة السابقة بأن الرئيس «الأسد لا يسيطر إلا على ثلث الأراضي السورية»، لكنه يعني اعترافاً أميركياً بأن الهدف من الوجود في الشرق السوري هو منع الجيش العربي السوري من إعادة استغلال حقول النفط التي كانت تشكِّل الموردَ الأساس للاقتصاد السوري، وأن الحل السياسي الذي يريده والذي سيفُضي حسب أحلامهِ لإسقاط «النظام» عبر الدستور والانتخابات يجب أن يمر بمبادلة الاقتصاد بالسياسة، لكن واقعياً فإن هذه المقاربة لا يمكنها لي الذراع السورية، فاقتصادياً البدائل المالية موجودة، واستثمارات الغاز في الساحل السوري ستبدأ قريباً، وبمعنى آخر:
يعي الأميركي تماماً أن ما لم تقبل بهِ سورية عندما كان الإرهابيون يسيطرون على مناطقَ شاسعة لن تقبل بهِ اليوم، تحديداً إذا ما سارت الأمور في إدلب كما هو مرسوم لها حرباً أم سلماً، بالتالي فإن هكذا اجتماعات وما ينتج عنها لا تختلف عن اجتماعات الأمم المتحدة في الجوهر، كلاهما فرصة للتكاذبِ الإعلامي مع فرقٍ بسيط أن الاجتماعات المتعلقة بسورية فرصة أميركية لاستعادة لغة التهديدات لبث الروح بالمعارضة التي كانت أداةً سياسية لجلب الخراب والدمار لسورية واستجلاب المزيد من المال عبر مشيخات النفط لا أكثر، لكن من قال إن التهديدات ضد السوريين ستأتي بنتيجةٍ، ألم يقل نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريبكوف قبل أيام: «لم يبق في ترسانة السياسة الخارجية الأميركية غير التهديدات».
عذراً ريباكوف الأدق أن ما تبقى هي لغة التهديدات، وعادل الجبير ومعهم عبد الله بن زايد، يا لها من ترسانة!