الأيديولوجيا حين تصطنع الهوية وتُفارق الحقيقة: الصهيونية كمثال دالّ

الأيديولوجيا حين تصطنع الهوية وتُفارق الحقيقة: الصهيونية كمثال دالّ

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٧ أغسطس ٢٠١٨

 يمكن تعريف الأيديولوجيا السياسية بأنها منظومة من الاعتقادات المعبّرة عن مجموعة من الرؤى والمصالح والمشاعر لجماعات اجتماعية معينّة مقابل جماعات أخرى، وتتسم بقدر معيّن من الثبات النسبي عبر الزمن، وبالتزام قوي من طرف معتنقيها. بعبارة أخرى، إنها تمثل النظرية وقد انخرطت في الممارسة أو الحركة السياسية، وتبلور الصورة التي ترغب الجماعة في أن تنظر إلى نفسها وإلى الأغيار من خلالها، كمقدمة للفاعلية الحركية. أي أنها تبلور ما يعرف بالهوية.
وتتباين الأيديولوجيات من حيث القرب أو البعد عن تمثيل الحقيقة الموضوعية للكون والمجتمع، فقد تقترب، اقتراباً شديداً من تلك الحقيقة لدرجة التطابق النسبي؛ وقد تبتعد عن الحقيقة ابتعاداً تاماً لدرجة صيرورتها نوعاً من «الوهم». وهذا الأخير هو ما نجده منطبقاً على الأيديولوجية الصهيونية، على سبيل المثال الدالّ، كما سوف نرى.
ولقد بدأ شيوع مصطلح الأيديولوجيا خلال القرن التاسع عشر في خضم توسع المدى العقائدي للفكرة القومية في أوروبا. وكان لكارل ماركس (1818-1883) نوع من فضل الريادة في استخدام المصطلح بمنحى اجتماعي في كتابه «الأيديولوجية الألمانية» الصادر عام 1845. وبشكل عام كانت للأيديولوجيا دلالة سلبية أو «رجعية» إن شئت. وبهذا المعنى، فإن كارل مانهايم (1893-1947) رائد «علم اجتماع المعرفة»، في كتابه «من الأيديولوجيا إلى اليوتوبيا»، خصّ مصطلح اليوتوبيا بالمدلول الثوري القائم على التغيير ذي الطابع التقدمي، كنقيض للأيديولوجيا التي تميل، عنده، إلى إضفاء الشرعية على الوضع القائم.
ولكن «الأيديولوجيا» سرت مسرى النار في الهشيم في أتون توسع وتعمّق كل من الحركة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني التنموية خلال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستخدمت في كليْهما بالمعنى الثوري العام.
ونحن نرى أن الأيديولوجيا يمكن أن تكون «ثورية» كما قد تكون «رجعية»، وهي في الحالين تطبع صورة الهوية القومية أو الطبقية أو «الجماعوية» على صفحة الفكر ذي الطابع الفلسفي، لتعبّر عن رؤى ومصالح ومشاعر مندمجة في كلٍ عقائدي ملتحم.
بهذا المعنى نرى أن الصهيونية هي أيديولوجية قبل أن تكون حقيقة تاريخية، وهي أيديولوجية رجعية بالتأكيد. وكذلك كانت منذ بلورتها في أعمال «المؤتمر اليهودي العالمي» بدورته الأولى المنعقدة في مدينة بال السويسرية عام 1897 بقيادة هرتزل، كتمظهر حديث للفكرة «اليهودية السياسية» الرافضة دائماً لفكرة الاندماج الأوروبي والساعية إلى «الانسلاخ» (انطلاقاً من الانعزال «الغيتوي»). وقد وقع ذلك عبر البحث عن «ملاذ وطني» للأقليات اليهودية، يكون خارج بلدانها الأصلية الواقعة في القارة الأوروبية بالذات، شرقاً وغرباً، (وليكن ذلك في أوغندا أو الأرجنتين أو فلسطين أو غيرها) هروباً مما يعتبرونه «الاضطهاد». وتفاعلت تلك الفكرة ببذورها وجذورها مع تطورات الأحداث في أوروبا على امتداد القرن التاسع عشر، على نحو ما تم تصويره بمناسبة الحادثة المعروفة بقضية «دريفوس» في فرنسا، لتصوغ فكرة «الانسلاخ» للتخلص من «الاضطهاد». وقد تمت محاولات من أجل نقد ونقض الفكرة اليهودية السياسية، كما ظهر، على سبيل المثال، في كتيّب «المسألة اليهودية» لكارل ماركس، المنشور عام 1843.
وتعتبر الأيديولوجيا الصهيونية الرجعية ردّ فعل إزاء ما سمّي بالمشكلة اليهودية في أوروبا خلال العصور الوسطى والشطر الأكبر من العصر الحديث وبخاصة خلال القرن التاسع عشر. ومنذ البداية شكلت مخرجاً لكل من العنصرية الأوروبية شرقيّها وغربيّها، ونظيرتها العنصرية اليهودية المتعلقة بأذيال رأس المال المالي الأوروبي والإقراض الربوي على المستويين العالمي والمحلي، وذلك عن طريق محاولة تحويل اليهود من أقلية مظلومة أو مسودة إلى أقلية سائدة أو ظالمة.
هكذا تخيلت الأيديولوجيا الصهيونية منذ بداياتها صورة الأقليات اليهودية في أوروبا كشعب يبحث عن «أرض وطنية مخصوصة» National Homeland. وفي هذا السياق تم التواصل بين قيادات «المؤتمر اليهودي العالمي» والسلطات البريطانية المنتدبة استعمارياً، من قبل «عصبة الأمم» على فلسطين، وذلك حتى تم صدور «وعد بلفور» (الإجرامي) البريطاني عام 1917 لمصلحة إقامة «سكن وطني» لليهود في فلسطين Establishment in Palestine of a National home for the Jewish People. وبعد ثلاثين عاماً تحول «السكن الوطني» المزعوم إلى «إقليم دوْلتيّ» عام 1948 وداخل فلسطين بالذات.
ومن ضمّ الإقليم المنتزع على امتداد ثلاثين عاماً، وبخاصة خلال «حرب النكبة»، ضمّه إلى ساكنة فلسطين الغزاة الجدد من المهاجرين اليهود المستوطنين، وإلى الحكومة التي كوّنتها «ميليشيات» المستوطنين الغازين. تتكون «الدولة» بمفهومها السائد في علم السياسة الغربي، ذات العناصر الثلاثة (حكومة وسكان وإقليم). هي إذن الدولة State ولكنها ليست أية دولة، وإنما هي «دولة يهودية» – وإن شئت فقل «دولة لليهود» - بمقتضى قرارات «الأمم المتحدة»، وبالتحديد «قرار تقسيم فلسطين» الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (رقم 181 لعام 1947) إلى دولتين: يهودية وعربية. وقد ابتلعت الدولة اليهودية في ما بعد الدولة العربية المفترضة ابتلاعاً تاماً.
وغلّفت مقتضيات الأيديولوجيا وقائع التقسيم، فطوّرت مصطلح «الدولة اليهودية» إلى «دولة يهودية ديموقراطية» تسمى بالعربية إسرائيل، وهو ما ورد في وثيقة إعلان «قيام الدولة» المزعوم والمسمّى في الأيديولوجيا «إعلان الاستقلال»، وترتب عليه طلب الاعتراف من أعضاء المجتمع الدولي ثم طلب العضوية في «الأمم المتحدة». واستند قرار قبول العضوية تلك (رقم 273 لعام 1949) إلى قبولها «قرار التقسيم» آنف الذكر، المتضمن إقامة «دولة عربية»، والقرار 194 لعام 1948 للجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص قضية اللاجئين. 
اصطنعت الأيديولوجيا الرجعية إذن هوية ديموقراطية للدولة اليهودية، ولم تجد تناقضاً بين الهوية المؤدلجة هكذا وبين تطبيق «الحكم العسكري» إزاء أهل فلسطين لنحو ثلاثة عقود زمنية، معتبرة إياهم في أفضل الأحوال من قبيل السكان الأصليين Natives على غرار شعب الهنود الحمر في أميركا الشمالية قبل «إعلان الاستقلال» للولايات المتحدة الأميركية عام 1776.
وقد دلّت التجربة التاريخية للممارسة الصهيونية في فلسطين (أي تفاعل الأيديولوجية مع الواقع) على أن هوة التفارق بين الأيديولوجيا والواقع غير قابلة للردم أو التجسير. فالأيديولوجية ترسم صورة هوية «قومية» لشعب ليس بشعب (الطوائف اليهودية القادمة من أقطار الأرض الأربعة تحت مسمّى رمزي «الشتات» أو «الدياسبورا»). أما الواقع فمفعم بالمقاومة، سواء أثناء وبعد 1948، ثم على إثر توسيع رقعة الواقع الاحتلالي عام 1967 ليصبح اليهود هم العدوّ، من وجهة نظر العرب، بعد أن كان العرب – بمقتضى الأيديولوجيات والممارسة الصهيونية – هم «العدوّ» من قبل. تجسّم الاحتلال إذن ليصبح عدواً. ومن قلب «العداء الإسرائيلي»، نشأت منذ منتصف السبعينيات – بعد حرب أكتوبر 1973 مصرياً وسورياً – عملية «الأسرلة» أي العمل على تحويل العرب من أهل فلسطين الباقين في بلادهم إلى «مواطنين إسرائيليين» في دولة تزعم أنها «لكل المواطنين».
بعد اتفاق أوسلو 1993 تنامى الوعي الوطني- القومي لدى الفلسطينيين الواقعين في أسر الاحتلال منذ 1948، وهو الاتفاق القاضي بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على الأرض المحتلة بعد 1967 (الضفة الغربية وغزة). وتنامي الوعي مرات أخرى، على إثر «الانتفاضة الأولى» – انتفاضة الحجارة - لعام 1988، ثم في سياق «الانتفاضة الثانية» – للأقصى والاستقلال – منذ 2001 حتى 2004، وما تلاها.
وفي ظل تكثف الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية و«القدس الكبرى» بعد 1967، برزت صورة الواقع المعاندة للأيديولوجيا. وللمرة الأولى يتجسد الواقع في صورة مرآوية للهوية الفلسطينية على مرتكزات المقاومة متعددة الأشكال، والمتجددة في الضفة وغزة، بخاصة غزة، ومرتكزات الديموغرافيا المتحولة فلسطينياً عن طريق قلب المعادلة السكانية بين العرب واليهود ليتجه إلى تعادل تقريبي بعد اختلال (سبعة ملايين نسمة تقريباً داخل حدود فلسطين التاريخية). 
الهوية الفلسطينية، بادئةً بقدر متواضع من مساحات وأعماق الأيديولوجيا الثورية، امتدت وتجذرت عبر الزمن، لتصنع «واقعاً» مغايراً: حيث الاستيطان يبتلع الأرض، ولكن على العكس من ذلك يزيد كمّ ووعي البشر. سقطت إذن معادلة «الإبادة» الأميركية للهنود الحمر (من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر) حين تم إلغاء البشر مع الاستيلاء على الأرض.
هنا في فلسطين يحدث العكس: تنزع ملكية الأرض ويغزوها «العدوّ»، بينما أن «الآخر» (العدوّ أيضاً) لا يُنتزع ولا يتم تأثره سلبياً بصورة جوهرية بفعل الغزو، وإنما ينمو. في ظل هذا الواقع الذي تجسد على وقع الانتفاضة الثانية، ومن بعدها بنحو عشر سنين، بدأت الدوائر الأشدّ تأدلجاً في المعسكر الصهيوني تطرح، منذ 2013، مشروعاً لتحويل صورة الأيديولوجيا - الوهم إلى قانون مشرّع ذاتياً، يضعه يهود إسرائيل لأنفسهم، لحماية «الذات» من «الآخر – العدوّ». إنه مشروع القانون الذي طرح على برلمان «الدولة» ليؤكد اليهود في إسرائيل لأنفسهم هوية اصطنعتها الأيديولوجيا، أنهم يهود ويظلون كذلك، وكذا دولتهم: دولة يهودية بالذات، مع استبعاد كلمة «ديموقراطية» من تعريفها.
هذا هو فحوى مشروع القانون الذي تم إقراره – بغالبية ضئيلة مع ذلك – في «الكنيست» صبيحة يوم 19 يوليو/ تموز 2018 (إسرائيل كدولة قومية - دولة/ أمة Nation-State للشعب اليهودي).
بذلك تخيلت الأيديولوجيا هوية قومية قائمة على الانتماء الديني، أمة دينية، إن شئت، أمة يعلن قيامها بقانون. وهل تنشأ الأمم بقانون؟ أم أن «تكوّن الأمم» هي عملية تاريخية معقدة طويلة الأجل، لدرجة أن من المشكوك فيه أن يُعتبر «الأميركيون» «أمة» بالمعنى العلمي، من وجهة نظر العديد من دارسي الأمم والقوميات المعاصرة.
الأيديولوجيا إذن شرعت لنفسها صورة قانونية للهوية: إسرائيل كدولة – أمة للشعب اليهودي Israel as the Nation-State of The Jewish People دولة-أمة، لشعب يقيم على أرض غيره ويسميها «أرض إسرائيل» التي يعرفها صهيونيون كثر بأنها تشمل عبرياً «يهودا والسامرة» – كامل الضفة الغربية. أما «أهل فلسطين» فهم خارج «الدولة-الأمة» لأنهم خارج الأمة، وليسوا من الشعب في دولة ليست لكل مواطنيها. إنها إسرائيل التي لم تعد تعمل على تعميم «أسرلة» السكان وإنما تعمل على تقسيمهم إلى شعبين: شعب يهودى ليس بشعب ملتحم في الحقيقة بالمعنى السوسيولوجي- التاريخي، وشعب عربيّ هو عين الحقيقة. 
إسرائيل إذن لم تعد هي إسرائيل، إذ تقرر مصيرها طائفة من السكان من دون غيرهم، لهم لغتهم الرسمية وأعيادهم ورموزهم، من دون سواهم. وإسرائيل هذه (غير الإسرائيلية) أُعلنت، وشرعّت لنفسها من هو «الأنا» ومن هو «الآخر-العدو»، حين اصطنعت لنفسها أيديولوجيا تعكس على مرآة ذاتها هوية مخصوصة متطابقة مع النزعة «العدوانية» نحو الخارج.
فإلى أين تتجه تلك الأيديولوجيا بأصحابها؟ وإلى أين يذهب مسار الهوية التي اصطنعتها الأيديولوجية اصطناعاً، في تعارض كليّ مع الواقع ؟ هذه هي المسألة.
* أستاذ في معهد التخطيط القومي في القاهرة