الفساد والمفسدون.. بقلم: د. خلود أديب

الفساد والمفسدون.. بقلم: د. خلود أديب

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٧ أغسطس ٢٠١٨

لا نافلةٌ في القول أن الفساد ظاهرةٌ تكاد تكون عامة تصيب حتى أكثر المجتمعات تقدماً ولا تقتصر على بلدان العالم الثالث، وإن كانت تتم في الأولى على نحو أرقى قليلاً، إن صح التعبير، بينما تتم لدينا على نحوٍ أكثر وقاحةً وصلفاً. ويزداد الفساد خطورةً عندما يرتكب من قبل أصحاب الياقات البيضاء. و جرائم ذوي الياقات البيضاء مصطلح يطلق على الجرائم غير العنيفة والمرتكبة لدوافع مالية من قبل رجال الأعمال وأصحاب النفوذ. أما في علم الجريمة فقد عرّف المتخصص بعلم الاجتماع إدوين سذرلاند المصطلح لأول مرة في عام 1939 بأنه"جريمةٌ يرتكبها فرد من ذوي الطبقات الاجتماعية العليا وله مكانةٌ مرموقةٌ في نطاق مهنته". وتشمل جرائم ذوي الياقات البيضاء: الاحتيال والرشوة ومخططات بونزي (وهو نظام بيع هرمي، وشكلاً من أشكال الاحتيال وجمع الأموال. وقد سميت كذلك على اسم مخترعها تشارلز بونزي الأمريكي) والتجارة من الداخل والاختلاس والجرائم الإلكترونية وانتهاك حقوق الطبع وغسيل الأموال وانتحال الشخصية والتزييف.
إلا أن جرائم الياقات البيضاء ليست ببعيدة عن بلادنا البتة ولا هي بمستجدة، فقد طالت مختلف مفاصل الدولة في سورية في زمن يسبق الأزمة بعقود عدة. إلا أنها نشطت واستفحلت في الآونة الأخيرة خلال الأحداث الدامية التي أصابت جسدها المنهك أصلاً لأسباب عديدةٍ، قد يكون على رأسها انشغال القيادة السورية بتحرير التراب السوري وبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها واسترجاع الأمن والأمان على أنها أولوية قصوى، وفي ذلك حقٌ لا ريبَ فيه ولكنه لا يبرر غض الطرف عن المخالفات العظام والجرائم المرتكبة من قبل من يفترض ائتمانهم عليها لا النهش فيها.  وقد قارب أذاهم أذى الحرب الطاحنة وضاعف من معاناة المواطن السوري، ذلك الذي صمد وتمسك بالبقاء في أرضه وأبى اللجوء والهجرة بجميع أشكالها رغم جميع الارهاصات والإغراءات.
وما زاد الطين بلةً جرائم الياقات الزرقاء مثل التخريب المتعمد تحت راية الانتقام من الطرف الآخر وسرقة المتاجر والخطف وما إلى ذلك من "تعفيشٍ" ونصبٍ واحتيالٍ أصبحت مؤخراً تندرج بهتاناً تحت مظلة انتهاز الفرص والحذاقة والفطنة بغرض جمع ثروات طائلة في استغلالٍ لانعدام الأمن والفوضى غير الخلاقة التي سادت ومادت حتى طفح الكيل بها.
إلا أنه، وفي حين تميل جرائم الياقات الزرقاء إلى جذب انتباه الشرطة وبالتالي قد يسهل تتبعها والسيطرة عليها وبل وفرض العقوبة المناسبة لكل جريمةٍ يطالها القانون، نرى أن أصحاب جرائم الياقات البيضاء لديهم الإمكانية المثلى للتهرب من المساءلة والإفلات من العقاب حيث أن مناصبهم تمنحهم هامش الجمع بين السلوك القانوني والإجرامي وبالتالي يكونون أقل عرضةً لجذب الانتباه فيبرعون في ايجاد التغطية القانونية المناسبة التي إن لم تعفهم من المسؤولية تماماً، تفتح لهم باب التهرب من العقوبة لعدم كفاية الأدلة أو لتمتعهم بحصانةٍ معينةٍ. وعليه تتنوع الجرائم المرتكبة بتنوع وظيفة الجاني المحتمل وما هو متاح له من قوةٍ وسلطةٍ.
ولا مناصَ لنا هنا من ذكر الجرائم العابرة للحدود الوطنية والتي يتورط فيها كبار الموظفين والمسؤولين مثل الاتجار بالبشر وغسيل الأموال ناهيك عن الإرهاب العابر للحدود والتي تورطت فيها دول كبيرة بمساندة من بعض النفوس الضعيفة التي لطخت أيديها بالدم السوري لجشع مادي أو سلطوي لهثت وراءه، لا علاقة له لا بإصلاحٍ ولا بثورةٍ مزعومةٍ ولا بربيعٍ عربي مشئوم.
وللإنصاف نقول لم يقتصر الفساد على أصحاب المناصب والمراكز بل تفشى ليصيب أصغر موظفي الدولة. فلا معاملة، مهما صغرت، تمر دون رشوةٍ أو ما يحاول البعض تجميلها فيضعها تحت بند الإكرامية أو التعبير عن الشكر لتعاون الموظف المناط به تقديم الخدمة مجاناً بدايةً ضمن توصيف عمله الذي يتقاضى عليه أجراً! ويبرر أصحاب هذا النوع من الفساد فعلتهم تلك بضعف الراتب وشح دخل الأسرة. قد يكون الوضع الاجتماعي والحالة المادية عاملاً مساعداً لتفشي الفساد في صفوف هؤلاء ولكنه لا يشكل مبرراً يعتد به قانونياً وأخلاقياً.  

قد تشمل الأحكام في الولايات المتحدة بحق جرائم ذوي الياقات البيضاء: السجن، أو الغرامات، أو التعويض، أو خدمة المجتمع،أو إطلاق السراح المشروط أو عقوبات أخرى بديلة تتناسب مع فداحة الجريمة. وقد أصبحت هذه العقوبات أكثر صرامةً بعد فضيحة جيفري سكيلينغ وشركة إنرون.  أما في دولاً أخرى كـالصين، فقد يحكم على ذوي الياقات البيضاء بـالإعدام. إلا أن دولاً معينة مثل كندا تعد العلاقة بين الأطراف المتورطين عاملاً مهماً في تحديد ماهية الحكم حين يتوفر عنصر الإخلال بالثقة، خصوصاً. ومازال الجدل حول عدم تكافؤ العقوبات وجرائم ذوي الياقات البيضاء قائماً ومستمراً لأجل غير مسمى.

أين نحن من محاسبة أصحاب الياقات البيضاء ومن فرض عقوباتٍ بحقهم يسنها قانون وضعي صارم؟ لقد تهرب الكثير منهم من المساءلة والمسؤولية فقاموا بتبييض أموالهم خلال الأزمة السورية وهرب البعض بأموالهم خارج الحدود وأعلنوا انتسابهم للمعارضة السورية لحمايتها من سلطان الرقابة والمحاسبة وبقي البعض الآخر يتابع نشاطه الاجرامي بكل صفاقة تحت راية المولاة وهم أخطر الجميع.  
قد آن الآوان لوقف تفشي هذا السرطان المخيف في جسد الوطن وهو مسؤولية الجميع، فاسدين ومفسدين ولا يقتصر على قيام الدولة والجهات المعنية بواجبها بالمحاسبة والمساءلة الناجعة. وإن كان العقاب والجزاء هما الأساس الذي يردع ويحد من تفشيه، فإن التوعية والعمل على تغيير الأفكار النمطية التي تبرره وإزالة المبررات التي يتخفى مناصروه خلفها (زيادة الدخل وخلق فرصٍ للعمل والحد من البطالة...إلخ) يشكل عاملاً فاعلاً بحد ذاته بغية سحب البساط من تحت مرتكبيه ولا يقل أهميةً عنهما.