العالم وفقاً لدمشق.. بقلم: أنس وهيب الكردي

العالم وفقاً لدمشق.. بقلم: أنس وهيب الكردي

تحليل وآراء

الأحد، ١ يوليو ٢٠١٨

ليس العالم بالمكان المريح، خصوصاً بالنسبة للدول الصغيرة. ليس هناك عاصمة تحمل رؤية خاصة حيال العالم أكثر من دمشق. هذه المقالة تهدف إلى محاولة عرض كيف تنظر دمشق إلى منطقتها وعالمها بعد سنوات من الصراع على سورية وفيها. وهي محاولة، بطبيعة الحال، محفوفة بمخاطر كبيرة.
مخاطر تتأتى أولاً من أن المحاولة بجوهرها تنظيرية ولا تستند سوى إلى العمق التحليلي. ثانياً، أن سورية رزحت لأعوام تحت وطأة صراع كبير أضعفها إلى حد بعيد، وجعل أرضها ومناطقها مسرحاً للعبة إقليمية ودولية دمرتها وحطمت عدداً من أهم أسس قوتها الإقليمية، ولا زالت اللعبة مستمرة ومتتابعة الفصول. ثالثاً، أن الشرق الأوسط والعالم قد شهدا تحولات وتغييرات كثيرة، نتيجة عوامل متعددة تسبب ببعضها، على الأقل، الحرب في سورية. وإن كان ثبات المنظومات الدولية والإقليمية هو من المحال، فإن التغييرات في موازين القوى الإقليمية والدولية تمهد لانتقال العالم والمنطقة من نظام إلى آخر جديد لم يولد بعد.
كان نفوذ القوى الإقليمية في المنطقة، كإيران أو تركيا، لا يزال طري العود عندما دخلت سورية في أتون صراع لا يرحم. أم اليوم فهو من طبائع الأمور في الشرق الأوسط ولا يبدو أن نفوذ تلك القوى في طوره إلى التراجع، ولا بد أن تشارك في الترتيبات المقبلة للنظام الإقليمي.
كانت الولايات المتحدة تراجع موقفها وأولوياتها في المنطقة بعد حربي أفغانستان والعراق وصعود الصين الاقتصادي، ولم يكن واضحاً في عام 2010، منْ منَ القوى الدولية، سيملأ الفراغ الذي ستتركه القوة الأميركية في الشرق الأوسط. والآن، بات من المؤكد أن روسيا ستتشارك مع الولايات المتحدة في تحديد شكل النظام الشرق أوسطي قيد التشكل، وأن الأوروبيين سيتراجعون إلى خلفية المشهد أثناء صوغه.
ترى دمشق في التطورات أعلاه جوانب إيجابية للغاية؛ فإيران، حليفتها لأكثر من أربع عقود، هي أرجح القوى الإقليمية نفوذاً. في العراق، تضطلع قوى ومجموعات صديقة للحكومة السورية بدور قيادي في صوغ سياسة بغداد الأمنية والإقليمية، كذلك الأمر بالنسبة للبنان. من جهة أخرى، تحدّ إعادة موضعة الولايات المتحدة لموقعها الشرق الأوسطي من ساحة مناورة الدول المنافسة لدمشق، كالسعودية. قدرة هذه الأخيرة ضعفت على التأثير بمجريات الأوضاع في سورية، لبنان والعراق، وهي مستنفزة بشدة في حرب اليمن والصراع مع قطر في الخليج. جراء ذلك، أصبحت الرياض فاعل غير مؤثر بالتوازنات الأساسية للنظام الشرق الأوسطي، ومحورها الهلال الخصيب. في السياق ذاته، تطمئنُ عودة روسيا إلى الشرق الأوسط فاعلاً استراتيجياً دمشق إلى أمنها على المديات كلها.
لكن دمشق لا يمكن إلا أن يتملكها القلق حيال عناصر أخرى من المشهد. فاستمرار الوجود الأميركي في الشرق السوري والغرب العراقي قد يقوي عزيمة السعودية، من جهة، ويؤثر على توجه العراق المستقل، من جهة ثانية، ويؤثر على وحدة وسيادة سورية من جهة ثالثة. أما العودة الروسية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط فقد تجعل المنطقة خاضعة لتقلبات السياسة الدولية وتصبح مسرحاً للاتفاقات ما بين الكبار، أو صراعهم.
ولعل أكثر ملمح يقلق دمشق هو الصعود المتواصل لنفوذ تركيا في شمال سورية خاصة، والفضاء الشرق أوسطي عامة، والذي استفحل في العامين الماضيين ويتوقع أن يكتسب زخم جديد بعد فوز رجب طيب أردوغان بانتخابات الرئاسة قبل أيام، متقلداً صلاحيات واسعة تقربه من أن يكون سلطاناً عثمانياً حقيقياً. هذا النفوذ التركي المتعاظم لا يجد من يحتويه في ظل حاجة الأطراف الإقليمية والدولية لخدمات أنقرة المتنوعة، وأيضاً في ضوء التراجع الكبير في موقعي بغداد ودمشق في اللعبة الشرق الأوسطية.
هذه العوامل المختلفة تجعل دمشق تصر على الاحتفاظ بتحالفاتها المضمونة والمجربة، لجبه المخاطر الكثيرة عليها وأهمها تصاعد حدة الصراع الدولي على شرق المتوسط والصعود المنفلت من عقاله للقوة التركية، وذلك بينما تترسخ القوة كأداة وحيدة للدول في عالم يتشكل من جديد.