«غيمةٌ ورحيل».. بقلم: محسن حسن

«غيمةٌ ورحيل».. بقلم: محسن حسن

تحليل وآراء

الخميس، ١ مارس ٢٠١٨

كانت ابتسامتُها انبلاجَ فجرٍ، وشروقَ شمسٍ، وإطلالةَ ضوءٍ، تلامس شغافَ قلبي، فتُعلّمه كيف يسجد في محراب ربّه، ويستقبل بداية يومه، ويعزف موسيقى صباحه، وينسج خيوطَ عُمُرِه، وتمنحه الحيويّةَ والنّشاط والشباب، وتُدخِل في ثنايا وجهي حيويّةً، ونضارةً وإشراقاً وجمالاً، فأُسرعُ إلى المرآة لأرى الجمال، وأحصل على شهادة منها، بأنّ الوجهَ الذي استقرّ فيها، قد مُسَّ بلمسةٍ سحريّةٍ، نادرة، رائعة، لا أحلى ولا أجمل...
وجودُها الهادئ الجميل، المُسالِمُ المُتصوّف، العارف بكلّ شيء، الزاهد فيه، المُتجاوز له، والمقتنع به، والمُترفِّع عنه – بلا كبرياء – هذا الوجود الساحر العظيم، كان مُعبراً طاغياً فاعلاً، كانتِ الأشياءُ تأخذ أماكنّها امتثالاً، وحبّاً لها، وإعجاباً، واعتزازاً ومباهاة بها...
كان البيتُ بها، يسوده الهدوءُ والحبّ والتعبير، وكنتُ أرى كلَّ ما فيها – كما هو – هو الأجملُ، والأكثرُ فتنةً، والأشدُّ روعة... كانت غيمتي الغنيّةَ، الحنونةَ، السخيّةَ، الرحيمةَ، المليئةَ بالمطر، فوق حدائق العُمُر، ترعاها، وتغمرها حُبّاً نَشِطاً، وتملؤها عطراً فوّاحاً، ومَطراً رحيماً حنوناً، كافياً، برعايةِ شمس رائعة، توزّع الألوان، وتمنح الدفء، والخضرة، والحيويّة والحنان، فاهتزّتْ، وربتْ، واعشوشَبتْ، وأنبتتْ من كلّ زوج بهيج... تفتّحت الأزهار، وانتشرت عبيراً وعبقاً، واختلطت عطراً، وتعانقتِ الأغصانُ فرحاً، وحبّاً، وتداخلتْ ألواناً، مُشكّلةً أجمل اللوحات المُعبرّة، مُبتسمةً بألفِ ثُغر.. والأشجار ترقص، بجانب السور، تيهاً ودلالاً، سكرى بخمرةِ ربيعِ شبابها، وقوّتها ونشاطها... عشنا الجنّةَ حُبّاً وسعادة، وخضرةً وألواناً، وأنفاساً، بالتّناوب، شهيقُها عطراً، وزفيرُها عَبَقاً وعبيراً...
كانت ليّ الجنّةَ، والإشراقَ، والوجودَ، والعطاءَ، والمحبّةَ، والفرحَ والحبيبةَ، كانت ليَ الدنيا، وكانت كلَّ شيء... وفجأة، فاجأني القدر، برحيلِ الغيمة، وغروبِ الشمسِ،  وانقطاعِ المطر، وهروبِ العصافير... ماتتِ الأعشابُ عَطَشاً، وذوتِ الأزهارُ حزناً، ويئستِ الأشجارُ، وحدةً، وقلقاً، وصمتاً... رحلتِ الغيمةُ، وغادرتْ، وبَعُدَتْ، ولن تعود...
رحلت غيمتي، رفيقةُ روحي، حواءُ عمري، أنثى قلبي، رحلتْ، ولم تَغِبْ... بقيت ملءَ الحواسّ كُلِّها، وأصبحت حاجتي إليها، بعد الرحيل أضعاف ما كانت قبل الرحيل...
أراها – تصوّراً – في أرجاء البيت كلِّه – وأنا مُغمض العينين – ماثلةً أمامي، في الزوايا، تشعّ نوراً، وتفيض ألقاً، وتغادرني، وتغيب عني – جسداً – عندما أفتح عينيّ، فشككتُ في عينيّ، أنّهما قد عجزتا عن الرؤية، ولكن تبيّن لي أن عينيّ، ما زالتا قادرتين على الرؤية جيداً، تريان كلّ شيء، - إلاّ هي – لأنّها ماتت وتركتْ وغادرتْ...
عرفت آنذاك أنّ العطر لا يدلّ عليها، إنمّا هي من غادرتِ العطر، وتركته وحداً، حزيناً مثلي، يندبها ويبكيها –نحيباً– بحُرقة، يتعثّر بأحزانه، وآلامه، باحثاً عنها، 
في السراب...
أراها في كلّ شيء له علاقة بها، تخرج منه للحظةٍ ضاحكةً، وتختفي بسرعةٍ، كالحلم... تخرج من القلم، والدفتر، والصورة، والجدار... من زجاجة العطر، وكأس الخمر، وابتسامة الزمن، ودمعة الدّهر...
أراها في كلّ مكان، كانت تذهب إليه، كالحقيقة تماماً، تجلس بجانبي، أسمع صوتّها يناديني، يُحدّثني، ويحكي لي حكايا العُمُر، ويقص لي قِصصَ الحياة...
أشياؤها الصغرى، وأشياؤها الكبرى، تعذبني، وتشدّني، بقسوة، من يديَّ، ورئتيّ، نحو الاختناق، والجنون، والموت...
ومع أنّها رحلتْ، وغادرت فما زالت ساكنة في روحي، وقد تكون روحي، من غادرت معها، وتعلّقت بها، وبقي جسدي، - حيّاً، بلا روح إلى حين – بانتظار عودة الرّوح من عندها، حاملةً القليلَ من عبير عطرها، وطيبِ أنفاسها، وروعةِ أُنسها... يا توأم روحي، فراقُك، في الحياة الدنيا، وخوفي عليكِ، - بسبب هذا الفراق – لا يعادله حزن، وألمي لا يضاهيه ألم... فقدُك هزّ بنياني، وزلزل كياني، كشف ما كان مُختبئاً به، ومدفوناً فيه، من كنوزٍ ثمينة، نادرةٍ، مَنسيّة، وكشف حُبّاً، لا حُبَّ قبله، ولا حُبَّ بعده، ولا حُبَّ مثله – حتى في حُبّ الحكايات، وحُبّ الخرافات... وفجّرَ أحزاني على فراقِكِ، نهراً غزيراً، مُتدفّقاً، وبدأت روحي تفيض، من عينيّ جداولَ دَمعٍ، تصبّ فيه ضامنة له، خلودَ جريانه، حافرة مجراه، من جديد – عميقاً، راعفاً – عازفاً موسيقى آلامه، وأحزانه، في قلبي، خالدة، بخلوده، 
طيلة عُمّره...
بفقدِكِ، فقدتُ كلَّ شيء – حتى أنفاسي – فقدت الوجودَ، والمكان، والزمان، ووجدت نفسي، وحيداً، تائهاً، في صحراء العُمُر، فاقداً كلَّ النِّعَمِ، بلا ظلّ، أشكو القيظ والعطش، والوحدة، غارقاً في الحرّ والضيق والبؤس...
وهناك لقيتُ آدمَ حزيناً، نادماً، باحثاً عن حوائه، وعرفتُأنّهما كانا قد نُهيا عن الاقتراب من تلك الشجرة، فخالفا واقتربا، وقطفا ما قيل لهما – تضليلاً – إنّه تفَاحةُ الخلود، فأُبعدا عن الجنّة، وأُهبطا إلى الأرض، مفترقين، تائهين، ضائعين، بما اقترفت أيديهما...
أما أنا فلم أُنهَ عن شيء، ولم أُحذّر، ولم أقترف ذنباً، ولم أخالف أمراً، ولم أقربْ شجرةً، ولم أقطف تفّاحةً، ولم أغادر جنّة– مطروداً – بل الجنّة غادرتني، وتركتني، فمأساتي أكبر، لأن من غادر الجنّة، قد يعود إليها، أما من غادرته الجنّة، وتركته، أين يجدها، وكيف، ومتى ستعود إليه؟!
آدم تلقّى من ربّه كلماتٍ، وَوُعِدَ بشكلٍ ما، بلقاء حوائه، ولقيها، أخيراً – كما وُعِد -...
أما أنا، فسأبقى باحثاً عنكِ، بقلقٍ، وَحَيرةٍ، وَحُرقةٍ، حتى ألقاكِ...
لو جمعني الله بكِ في الجنّة، سيكون فرحي بلقائكِ كبيراً، طاغياً، غامراً، وسيتفجّرُ في قلبي نهرٌ من الأفراح، موازياً لنهر أحزان الدنيا – على فقدك وفراقك، وسيتابع كلٌّ منهما جريانه، في مجراه، لا يعرقل جريانُه جريانَ الآخر، ولا يؤثّر عليه،...
حبُّك، وفراقُكِ، حبّي لك، وفرحي بكِ، وحزني عليكِ... قسّم قلبي جزأين، وشطره شطرين، شطرين يُحيطانَ، بنهر أحزان الدنيا على فراقك، يشكّلان له شطّين، يسير بينهما بصمتٍ، وعمقٍ، وحزنٍ، ودموعٍ أبديّة... وشطرين يضجّان بلقائكِ في الآخرة، فرحاً خُرافيّاً، يخترقهما نهرُ الأفراح، بنشوته، وفرحه، وسعادته، وغبطته...
سيتابع النّهران المتوازيان المُتناقضان، جريانهما في قلبي، بجوار بعضهما البعض، كلٌّ من النقطة التي تفجّر منها، وإلى الغاية التي فُجّر من أجلها، وَخُلقَ لها، وللوصول إليها...وهكذا كُنتِ لي غنىً، في الدنيا والآخرة، وقدّمني حبُّك، وفراقَكِ أُنموذجاً للحزن، في أعماق نهرِ الأحزانِ، وأُنموذجاً للفرح، في قِممِ جبال الأفراح، أُنموذجين للحزن والفرح... حبُّك جمع في قلبي الحزن والفرح، النّار، والصقيع، أحترقُ بالنّار صَهراً، وأموتُ بالصقيع تجمُّداً...بكِ اختُبرتْ إنسانيّتي، فسجدتُ في محراب حبّي، وَصُهِرْتُ في نار شوقي، وَجُمِّدتُ في 
صقيع حزني...
فرُحماكِ سيّدة قلبي، وأميرة حبّي، ومالكة دموعي، فقد أحرقتني النّار، وجمّدني الصقيع، وأذابتني الدّموعُ، وأضنتني المُتناقضات، وقضّت مضجعي الأحزان...
هل من هدوء للعواصف، وسكينة للأنواء، وأن تكون النارُ برداً وسلاماً، وأُتركُ لأحزاني، وأفراحي، أداوي على الشطآن الجراح، وأُلملِمُ من الأعماق الْمَحَار، وأكتبُ قصّةَ وجدي، وأنظمُ قصيدة حُبّي؟!...هل هناك، من يُخرج من قلبي – إلى صحراء العُمُر -، النّهرين، ويعيد له لُحمَةَ الجزئين، ويوحّد الشطرين، يُعيد للقلبِ وحدتَه وشبابَهِ، وحيويّتَه، ونشاطه، وربيعه، ويُنهي تجزئته، ويُوسِعُ له في فسحتِه، ما يكفي – لكِ وحدَكِ – لترقصي فيها، حافيّة القدمين أم غير حافيّة، كما تريدين، وتهوين، وأن يعزف ذاك القلب موسيقى عُمُرِه، على وقع خطواتِك، وإشراق ابتساماتِك، وأن يعيش بقيّة حياته على لمسات قدمَيك، وحنان نظراتِك.
هل هناك من يخرجني، وحوائي – أنتِ – من الجنّة، بعد لقيانا فيها، ويعيدنا إلى الأرض -معاً – غير مطرودين – لِنُكمل بقية عُمُرِ الدنيا، الذي كان جميلاً، جميلاً، وقصيراً قصيراً، لقد كان العُمُرُ معكِ، في الدنيا، أجملَ من الحياة، في الجنّة، في الآخرة...!!
قد يقول قائلٌ، من الذين لا يملكون عيناً كعيني، وقلباً كقلبي، وشعوراً كشعوري، والذين يظنون أنَّهم مؤمنون، أكثر منّي، مع أنني تجاوزتهم بقرون، كإبراهيم...!!: هل من إنسان يطلب الخروجَ من الجنّة، بعد أن فاز بها، وهي الفوز العظيم؟! ويقولون لي أيضاً – كما اعتادوا – جُمَلاً، حفظوها – وهم نائمون – ولا يعون ما يقولون...
«الله أعطى، والله أخذ»«لكلّ أجل لا يتخطّاه»«لا احتجاج على أمر الله»، «هذه إرادة الله»...
أُذكّرُ، هؤلاء الجهلة جميعاً: إنني أحفظ، كلّ تلك الجُمَل حرفاً حرفاً، ومؤمن بها احتساباً، وإيماناً، وتسليماً،...
وأضيفُ عليها: إن الحزن ليس استنكاراً، وليس احتجاجاً، ولا كفراً، ولا إشراكاً... إنّما هو وفاء، وحبٌّ، وإيمان، وسجودٌ، وركوع على النّار المُقدّسة، بين يديّ الدّيان، الرحمن، بكلّ الرضى والتّسليم، بقضائه، وقدره...
والدّمعة هي عنوان الحزن، والحزن هو نهرٌ، بكلّ معنى النّهر، ينساب في وديان العُمُر، يسقي غابات الحزن، فتبقى حيّة، خضراء، مورقة، لا تفنى ولا تموت، والذكريات حاضرةً، ماثلةً، لا تُنسى ولا تغيب... 
وفي التاريخ، قِممٌ عاليّةٌ، عليمة، عالمة، بكتْ حزناً وأسفاً، ووفاء...
فيعقوب بكى يُوسُف، حتى ابيضّت عيناه... ومُحمَّد خشع قلبُه، ودمعت عينُه، على فراق ابنه إبراهيم...وفاطمة بنت مُحمَّد، انتحتْ جانباً، واعتكفت في بيت الأحزان، حزناً على أبيها، بكته كثيراً، وحزنت عليه طويلاً، حتى بكاها البكاء، وحزِن الحزنُ عليها، وقبّل يديها، واستعطفها، تجلُّداً وصبراً...!!فهل هناك مؤمنون أكثر، وقدوة أفضل..؟!...