سلامٌ على دمشق.. 60 عاماً على الوحدة المصرية ــ السورية

سلامٌ على دمشق.. 60 عاماً على الوحدة المصرية ــ السورية

تحليل وآراء

الجمعة، ٢٣ فبراير ٢٠١٨

كان ذلك يوماً فريداً في التاريخ العربي. المشاعر تدفقت كطوفان، والأحلام لامست السماء في بناء دولة قوية وموحدة «تصون ولا تهدد تحمي ولا تبدد تصادق من يصادقها وتعادي من يعاديها».
إنه يوم 22 فبراير/ شباط 1958 الذي أعلنت فيه الوحدة المصرية ــ السورية، أول وآخر تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث. بعد ستين سنة، لا موضع الآن لحديث عن أية وحدة عربية، وأقصى ما نتطلع إليه تجنب سيناريوهات التقسيم الماثلة في سوريا وبلدان أخرى.
بين حلم الوحدة وكابوس التقسيم قصة طويلة وأليمة أهدرت فيها كل القضايا وارتكبت كل الخطايا واستبيحت كل المحرمات. يقال عادة: «لا حرب بلا مصر ولا سلام بلا سوريا». وقد ثبتت صحته في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتعرجاته. بحقائق الجغرافيا السياسية إذا ما سقطت سوريا تتقوض مصر ويخسر العالم العربي كله أية مناعة تحول دون تفكيك دوله والتلاعب بمصائره. هذه واحدة من بديهيات نظرية الأمن القومي.
بعد حرب السويس عام 1956 وفشل إخضاع مصر وضعت خطة أطلق عليها «استراجل» ـ وتعني البعثرة.

كانت تقضي بأن إسقاط سوريا يفضي مباشرة إلى عزل مصر وبعثرة العالم العربي. وقد كشف عنها ـ ربما لأول مرة ـ الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 2007 في حديث تلفزيوني. كانت سوريا مهددة في صميم وحدتها الداخلية ومكشوفة لضغوط إسرائيلية وتدخلات تركية، ومشروعات انقلابات، عسكرية أو غزو من الخارج يقوده رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد، الرجل الذي ارتبط أكثر من غيره بسياسة الأحلاف العسكرية في المنطقة.


عبد الناصر في سوريا

 

بحكم موقعها الجغرافي، لم يكن ممكناً لسوريا أن تنغلق على نفسها تحت أي ادعاء، أو أن يكون لها مستقبل خارج عالمها العربي بأية ذريعة. ولم تكن مصادفة أن سوريا ـ بالذات ـ هي البلد الذي حضن الفكرة العروبية في مواجهة «التتريك» ونشأت فيها ـ قبل غيرها ـ الحركات ذات التوجه القومي العربي. كما لم تكن بلاغة تعبير أن توصف بـ«قلب العروبة النابض». بحكم موضعها في المشرق العربي، فهي عاصمته الطبيعية.
وبحكم اتصال الأمن القومي المصري بها، فهي توأمه. وبحكم حدودها مع الدولة العبرية، فهي طرف في صراع وجودي. وبحكم امتداد ساحلها على البحر المتوسط، فهي مركز استراتيجي. وبحكم اتصالها بشبه الجزيرة العربية حيث موارد النفط، فهي تحت بصر المصالح الغربية.
هكذا أكدت الحقائق نفسها، لا عالم عربياً بلا مصر، التي تمثل ثلث كتلته السكانية، ولا نهضة عربية بلا سوريا ـ مهما حسنت النيات والتوجهات. وهكذا فإن المصير السوري هو شأن كل بلد عربي وكل مواطن عربي يدرك حقائق ما حوله.

 

(1)

 

«انتصرت إرادة العرب... لا فراغ في الشرق الأوسط، ولا مناطق نفوذ». هكذا تحدث عبد الناصر.
السياق التاريخي ضروري لفهم ما جرى من تدافع للحوادث وصلت ذروتها بإعلان الوحدة المصرية ــ السورية. كان يخوض حرباً مفتوحة ضد سياسات ملء الفراغ والأحلاف العسكرية بعد تقويض مكانة إمبراطوريتين سابقتين، هما البريطانية والفرنسية، بأثر النتائج السياسية لحرب السويس. وكان العصر الأميركي قد بدأ يطل على العالم العربي في ظروف حرب باردة أعقبت الحرب العالمية الثانية. كانت الوحدة المصرية ــ السورية خطوة متقدمة أكدت قدرة العالم العربي على ملء الفراغ بنفسه دون حاجة إلى أحلاف تخضع لحسابات استراتيجية ضد مصالحه ومستقبله.

كما كانت تطويراً لنتائج حرب السويس التي ألهمت حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، حيث تمكنت دولة مستقلة حديثاً من أن تتحدى الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل، وأن تصمد أمام العدوان عليها، وأن تغيّر موازين الحسابات في المنطقة ـ كأن فوران غضب على الإرث الاستعماري اندلع فيها.
في ذلك اليوم الفريد ـ قبل ستين سنة ـ تبدّت حالة سياسية ووجدانية قد يساعد التوقف عندها على تلمس بعض ما يجري الآن تحت السطح العربي الساكن، أو المشتعل بالنار، من خلجات نفوس وأحلام محبطة. إنها أمة واحدة كاشفت نفسها في لحظة أمل أنها تستطيع أن تصنع التاريخ وتبني دولة منيعة قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر وأن تأخذ أحلامها إلى أرض الواقع. بعد إعلان الوحدة، كانت دمشق تنتظر وفداً مصرياً رفيعاً قادماً إليها. مالت توقعات رجل سوريا القوي ـ في ذلك الوقت ـ عبد الحميد السراج أن الوفد سيرأسه المشير عبد الحكيم عامر. عندما هبطت الطائرة المصرية في مطار دمشق، كانت المفاجأة صاعقة، وكاد السراج أن يُغمى عليه، فالذي هبط منها هو جمال عبد الناصر نفسه.
صرخ المسؤولون السوريون من هول الحدث: «يا خبر ـ دمشق لن تنام الليلة» ـ حسبما نشرت صحيفة «الأهرام» في اليوم التالي.
كانت تلك أول مرة تطأ قدماه العاصمة السورية، وهو رئيسها وأملها في بناء دولة عربية كبرى في المنطقة.
كرجل أمن، أدرك السراج أنه في مشكلة مستعصية، فالمشاعر جياشة، ولم تكن هناك احتياطات لازمة تستبق الزيارة وتؤمنها من أية اعتداءات على الرئيس، والتربص بحياته على أشده. بدأ الزحف العظيم من المدن والقرى السورية لترى بالعين رئيس الجمهورية العربية المتحدة. تدفقت على دمشق كتل شعبية أخرى عبر الحدود العربية المجاورة، وخاصة لبنان. بدا كل شيء عفوياً ومحمَّلاً بأحلام كبرى في مستقبل جديد. حملت الحشود المتدافعة سيارة عبد الناصر على الأكتاف في مشهد تراجيدي تاريخي لا يكاد يصدق. سهرت حتى الفجر بالمشاعل أمام قصر الضيافة. من وقت لآخر ينادونه بلا كلل: «طل علينا يا جمال». في فكرهم ووجدانهم تأميم قناة السويس وإحباط العدوان على مصر ومعارك التحرر الوطني ومحاربة الأحلاف الاستعمارية وتنويع مصادر السلاح والانحياز إلى الحق الفلسطيني ومبادئ باندونغ.
شيء آخر عميق ومتوارث دعاهم إلى استدعاء الأمل بالهمة. المعاني أهم من الرجال، والقضايا الكبرى تلهم الناس العاديين أنهم يمكن أن يصنعوا تاريخهم بأنفسهم وأن يوقفوا أي امتداد جديد لقرون من الإذلال والتهميش. بذات قدر الرهان عليه، اقترب عبد الناصر من دخائل المجتمع السوري لتدارك أية أخطار محتملة على الوحدة، وقد بدأت تظهر على السطح السياسي. كانت رحلته الأخيرة إلى دمشق، قبل الانفصال الذي قوضها، مثيرة في وقائعها وكاشفة في دلالاتها، كما رواها الأستاذ أحمد بهاء الدين (الصورة).
«كانت حقاً رحلة شاقة. كان استقبال الشعب لجمال عبد الناصر كالعادة اسطورياً، ذهب إلى مناطق قال لنا أهلها إنه لم يسبق أن زارها وكيل وزارة من دمشق العاصمة، وكانت التسهيلات في بعض تلك المدن التي لم يدخلها مسؤول واحد معدومة تماماً، لم تكن هناك ببساطة أماكن أمام رئيس الجمهورية العربية المتحدة وصحبه من الوزراء والصحفيين المصريين والسوريين للمبيت ولا للمأكل ولا أي شيء على الإطلاق».

 

«في دير الزور ـ مثلاً ـ كان هناك بالمصادفة مبنى جديد لم يستعمل بعد لمكتب بريد وبتنا جميعاً فيه، بات جمال عبد الناصر في غرفة بالدور الثاني من المبنى لعلها حجرة مكتب مدير البريد. وفي الدور الأرضي الذي يفصله عن الشارع حاجز زجاجي فقط غطوا الزجاج بالبطاطين ورصوا أسرة من القوات المسلحة، وكان الناس في مثل هذه الظروف يأتون متبرعين بالسراير والمراتب والأغطية التي سيستعملها جمال عبد الناصر وصحبه». وقد شملت زيارته الأخيرة الحسكة وحلب ومناطق نائية. كانت المشاعر تكفيه لتحمل مشقة التجوال فيها بلا خدمات أو أية وسائل للراحة.
أهمية شهادة الأستاذ بهاء تتجاوز حجمه وأثره في تاريخ الصحافة المصرية إلى أفكاره واعتقاداته وخياراته السياسية.
في شبابه الباكر تأثر بأفكار «البعث» وارتبط بصلة حوار مع مؤسسه ميشيل عفلق كلما مرّ بالقاهرة.
وكان هناك شبان آخرون أخذوا التوجه نفسه، مثل الدكتور جلال أمين، المفكر الاقتصادي المعروف، والناشر الدكتور علي مختار، والسفير أمين يسري، لكنهم أخذوا مساراً آخر مع حلم الوحدة وصدمة الانفصال الذي تورطت فيه قيادات كبيرة مثل صلاح البيطار ثاني أهم شخصية في تأسيس «البعث».
ماجت سوريا بالغضب على الانفصاليين حتى أزاحت وصمته من تاريخها وعرضت الوحدة مرة أخرى على جمال عبد الناصر عام 1963، لكنه طلب مزيد من الدراسة حتى لا يتكرر ما جرى.
عندما تشاهد على شرائط مسجلة مئات آلاف البشر تتدافع إليه في ذلك اليوم قبل ستين سنة، فلا بد أن تنصت إلى صوت التاريخ، وتدرك بالعمق أنها كانت تهتف للمعنى قبل الشخص، وأن هذه لم تكن «انفعالات عواطف»، بل حقائق تاريخ يجسدها رجال وأحلام سجلتها أغانٍ بأصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاح سلام ومحمد قنديل وآخرين.
لا يضارع ذلك اليوم ـ 22 فبراير ـ من حيث المعاني والمشاعر والصور سوى زيارته للجزائر بعد تحريرها، وكان الانفصال قد وقع. حملت سيارته حتى كادت أن تتحطم تحت وطأة التزاحم والشرائط المسجلة متاحة لمن يريد أن يتأمل كيف حلمنا ذات يوم قبل أن نسقط في بئر بلا قرار.

 

(2)

 

في 28 سبتمبر/ أيلول 1961 جرى فصم الوحدة المصرية السورية بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأميركية ومولته المملكة العربية السعودية وشارك فيه الأردن وآزرته تركيا وهللت له إسرائيل. سأل عبد الناصر الملك سعود بن عبد العزيز، بعد أن جاء للقاهرة لاجئاً سياسياً عقب إطاحته: «هل صحيح أنك دفعت 7 ملايين جنيه إسترليني حتى يتم الانفصال؟». أجابه: «طال عمرك... 12 مليون جنيه إسترليني».
رغم الخطط والمؤامرات على الوحدة المصرية ــ السورية، وكلها ثابتة في وثائق وشهادات واعترافات، إلا أنها سقطت من داخلها قبل أي فعل خارجي، وسبّبت أخطاء جوهرية بصميم التجربة على تسهيل الانقلاب. حسب شهادة العقيد جاسم علوان، فإن «هاني الهندي الوزير في دولة الوحدة كتب مذكرة تفصيلية للمشير عبد الحكيم عامر كشفت عن انقلاب قريب والأسماء المتورطة فيه، وكان يتصدرهم مدير مكتبه عبد الكريم النحلاوي».
واجه المشير مدير مكتبه بما ورد في المذكرة، فقال له النحلاوي: «إذا أردتم أن أنفذ شيئاً سأفعله حتى لو أمرتني بإطلاق الرصاص على نفسي».
لم تمضِ أيام حتى وقع الانقلاب، وكان مهندسه النحلاوي الذي استخدم موقعه في حركة تنقلات داخل الجيش سهلت مهمة الانفصاليين. في ما بعد هرب إلى الولايات المتحدة تحت رعاية استخباراتها، خشية أن يقع في يد الوحدويين.
بصورة أو أخرى، استخدم النحلاوي الصراع المحتدم بين نائبي رئيس الجمهورية العربية المتحدة عبد الحكيم عامر وعبد الحميد السراج. كان السراج يمسك بمقاليد الأمن ويعرف دخائل الجيش وقد سهلت استقالته مهمة الانفصاليين.
في تلك الأجواء برز رجلان على مقدمة المسرح السوري الملتهب، هما السراج نفسه والعقيد جاسم علوان سكرتير المجلس العسكري الذي مهد للوحدة والذي حاول إعادتها بانقلاب مضاد.
بتقدير الأستاذ هيكل، فإن الأول «قد تختلف مع وسائله، لكنك لا تشك في نياته»، وقد حمى سوريا من مؤامرات عديدة قبل الوحدة وبعدها. والثاني، «في وقت من الأوقات كان مستقبل الشرق الأوسط في يد هذا الضابط الشاب». بعد أن انقضت عقود طويلة على الوحدة والانفصال حاورتهما، ولكل حوار قصة لها معنى.


الأستاذ هيكل

 

التقيت السراج ـ لأول مرة ـ في مكتبه بقلب القاهرة عندما كان يرأس الشركة القابضة للتأمين في حضور شخصيات لبنانية لعبت أدواراً تحت إشراف الزعيم اللبناني كمال جنبلاط ومتابعة من القاهرة في تهريبه من سجن «المزة» الذي أودع فيه معتقلاً بعد الانفصال. بصورة مطلقة، امتنع عن الإدلاء بأية شهادة حتى لا يؤول أي حرف في الإساءة إلى الزعيم الراحل. وقد بذلت صحف عديدة تصدر بالخارج عروضاً سخية لاستخدامه في الحملة عليه والتشهير بالوحدة. على الجانب الآخر، تحدث العقيد علوان وأفاض عن الوحدة وتجربتها وأسباب انفصالها، مؤمناً بأننا كنا دولة عظمى، وأن الوحدة كانت محتمة والانفصال جريمة تاريخية لا تغتفر. وقد تدخّل عبد الناصر بكل ثقله للإفراج عنه وعاش في القاهرة حتى رحل.
من مفارقات التواريخ، أن عبد الناصر نفسه رحل في 28 سبتمبر 1970، وهو يوم الانفصال نفسه قبل تسع سنوات.
في ما بعد قال عبد الناصر إن أول دبابة تحركت للانقلاب على الوحدة كانت الرديف الحقيقي لأول دبابة إسرائيلية دخلت سيناء في حرب يونيو/ حزيران 1967. على مدى عقود طويلة نشرت آلاف الدراسات عن الوحدة وأسباب الانفصال.

باليقين، يتحمّل عبد الناصر جانباً من المسؤولية، لم يكن عامر مؤهلاً لإدارة دولة الوحدة من دمشق والانقلاب حدث من داخل مكتبه. كذلك إن عدم تغييره بعد الانفصال كان خطأً جسيماً أفضى ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى الهزيمة العسكرية في يونيو بالحجم الذي حدثت به. رغم ذلك، تتبدى الوحدة في الذاكرة العامة كحلم يستعصى على محاولات الإجهاز عليه.
أجهزوا على تجربة عبد الناصر واصطادوها من ثغراتها، لكنّ للأحلام مناعة أكبر وعمراً أطول.
قالوا إن الوحدة «وهم ناصري»، وإن مصر فرعونية، أو شرق أوسطية أو أي شيء آخر غير أن تكون عربية، لكن الحقائق تغلب باستمرار. فـ«مصر» ـ بالثقافة والهوية والجغرافيا والتاريخ ـ مشدودة إلى محيطها العربي، المصائر مشتركة، والقضايا واحدة وعندما تنكرت مصر لأدوارها جرى ما جرى لها من تهميش وتراجع في المكانة.
عندما نقارن الصور التي كانت، بالصور التي تحاصرنا الآن، نجد أنفسنا في سرير واحد مع العدو طائعين خانعين، كأننا نحتفل في يوم واحد ـ 22 فبراير ـ بالحلم على سرير الكوابيس.

 

 

(3)

 

يستلفت الانتباه في أداء عبد الناصر لحظة الانفصال مدى إدراكه للحقائق في سوريا وخشيته على مستقبلها. بعد الانفصال بأسبوع، قال في خطاب بثته الإذاعة المصرية، كأنه يقرأ طالع أيام لم تأت بعد: «إن الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتل المكانة الأولى... إن قوة سوريا قوة للأمة العربية وعزة سوريا عزة للمستقبل العربي والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية». «لست أريد أن أقيم حصاراً سياسياً أو دبلوماسياً من حول سوريا، فإن الشعب السوري في النهاية سوف يكون هو الذي يعاني من هذا الحصار القاسي».
وكان مما قال في ظروف الانفصال: «ليس مهماً أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا». في لحظة الانكسار تبدت سلامة الرؤية. أوقف التدخل العسكري المصري بعد أن أرسلت قوات إلى اللاذقية خشية إراقة الدماء. وكان ذلك إجراءً سليماً، رغم صعوبته، فلا وحدة تتأسس على إراقة دماء. أثبت بموقفه في أزمة الانفصال مدى اعتزازه بالشعب السوري الذي لم يحب شعباً آخر أكثر منه ولا أحب مدينة أكثر من دمشق. كان للانفصال عواقب استراتيجية أوصلتنا إلى الكوابيس المقيمة.
تراجع زخم حركة التحرر الوطني في العالم العربي وقوة حضور المشروع القومي.
رغم اتصال معارك عبد الناصر من مساعدة الثورة الجزائرية على نيل الاستقلال إلى التدخل في اليمن لحماية نظامه الجمهوري والسيطرة على استراتيجية البحر الأحمر ونقل البلد كله من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة إلى تحرير القارة الإفريقية ـ أكبر عملية تحرير في التاريخ الإنساني، إلا أن جرح الانفصال بدا غائراً في استراتيجيته التحررية.
استخدمت حرب اليمن واتساع الدور العسكري المصري فيها إلى ما جرى في 5 يونيو من هزيمة باهظة.
حسب تسجيلات «العملية عصفور»، حيث زرعت في السفارة الأميركية في القاهرة ميكروفونات تنقل ما يجري من حوارات في الغرف المغلقة، فإن قادة الدولة العبرية توصلوا إلى استنتاج أن إسرائيل لن تكون آمنة ما دام «عبد الناصر على قيد الحياة»، وأنه لا بد من الوصول إليه بالمرض أو السم. ليس مؤكداً أنهم قد وصلوا إليه، غير أن كل ما جرى بعده يثبت محورية مشروعه في التحرر الوطني والوحدة العربية ووحدة المصير الإنساني. جرى الانقلاب على توجهاته الأساسية والتشهير به على أوسع نطاق. كما جرى التوظيف السياسي لحرب أكتوبر عكس ما طلبه الذين عبروا قناة السويس بقوة السلاح حتى وصلنا إلى معاهدة لا تليق بأية منتصرين منحت إسرائيل ما لم تستطع أن تحصده في ميادين القتال.
أخذ النظام الإقليمي العربي يتقوض من مرحلة إلى أخرى، بدلاً من التطلع إلى وحدة عربية شاملة أصبح بقاء الجامعة العربية على قيد الحياة، رغم ضعفها الفادح، مسألة أمل. عندما تفاقمت الأزمة السورية وأفلتت بالسلاح من أي زمام واتسع نطاق التدخلات الأجنبية بدا أمام الأستاذ هيكل أن سوريا ومصيرها، لا بشار الأسد ومستقبل نظامه، صلب الموقف.
كان متأثراً في موقفه بنظرته إلى قضية الأمن القومي، وبما عاين من حوادث أثناء الوحدة، وبما قرأ من وثائق لم تكن معروفة أثناء التجربة، خاصة الخطة «استراجل». في بدايات تفاقم الأزمة السورية حاور اثنين من أقرب أصدقائه، هما المبعوث الأممي إلى سوريا ووزير الخارجية الجزائري الأسبق السفير الأخضر الإبراهيمي، والأمين العام للجامعة العربية، الدكتور نبيل العربي في ذلك الوقت. سجل أسباب اعتراضه، وقد كنت متابعاً، على تدويل الأزمة وإحالتها من الجامعة العربية على مجلس الأمن، وعلى تجميد السفارة السورية بالقاهرة على عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي وإخلاء مقعدها في الجامعة العربية. كان تقديره أن ذلك سيفضي إلى رفع درجة التدخلات الأجنبية ويضع المصير السوري كدولة موحدة في مهب النيران دون سعي حقيقي لإخمادها.
هكذا تدهورت الأحوال على الأرض إلى حروب إقليمية بالوكالة، ثم حروب دولية على النفوذ وتوحش ظاهرة الجماعات الإرهابية مثل «داعش» و«جبهة النصرة». بأي نظرة على الخريطة السورية الآن لا يمكن استبعاد سيناريو التقسيم.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وجّه اتهاماً صريحاً ـ قبل أيام ـ من فوق منصة مؤتمر «ميونيخ» إلى الإدارة الأميركية بالسعي إلى تقسيم سوريا. وبأي نظرة أخرى على الخريطة، يصعب الحديث عن أي أمل عربي في أي مستقبل دون أن تكون دمشق في قلبه. هكذا كانت خبرة الوحدة وأحلامها التي حلقت والانفصال وما تبعه من انكسارات حتى وصلنا إلى الكوابيس.
سلام على دمشق.